تركيا وحرب ليبيا.. كيف بدأت القصة..

مع  بروز التطورات الميدانية الأخيرة علي الساحة اللبية  في أعقاب اشتداد المعارك حول العاصمة طرابلس وضواحيها، بين حكومة الوفاق الشرعية، ومليشيات خليفة حفتر التي تحارب للسيطرة علي طرابلس منذ أكثر من سنة، ومع هذه الأحداث؛وما عرفته من انتصارات لحكومة الوفاق؛برز اسم تركيا بوصفها كلمة السر وراء الهزائم الكبيرة التي تكبدتها ميليشيات خليفة حفتر.

فكيف،ومتي حصل التدخل التركي؟ 

ثم ماهي خلفية التدخل التركي في الصراع الليبي ؟

وما علاقة ذلك بتدخلات الأطراف الخارجية الأخري؟ 

 

بعد سقوط نظام القذافي في أعقاب ثورة 17 فبراير  التي أطاحت بواحد من أطول الأنظمة عمرا في العالم،هو نظام القذافي الذي حكم ليبيا منذ 1969 م وحتي 2011،فقد بات من الواضح للمراقبين للشأن الليبي وعلي إثر ما وقع من أحداث أعقبت سقوط القذافي ،أن ليبيا، وثورتها يتعرضون لمؤامرة من بعض الأطراف الدولية،وذلك بغية الحيلولة دون حدوث استقرار للأوضاع في ليبيا،كانت البلاد في أمس الحاجة له بعد الخلاص من القذافي،ونظامه،ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن،فقد كانت القوي الدولية المناهضة للثورة في هذا الوقت،قد وضعت خطتها المضادة للثورة موضع التنفيذ مباشرة بعد أن وضعت حرب الثورة التي أسقطت القذافي أوزاها.

ففي الوقت الذي اعتقد الليبيون أن معاناتهم قد انتهت بانتهاء نظام حكم القذافي الدموي، الذي حكم بلادهم لما يقرب من نصف قرن، وأنهم قد تركوا تلك المعاناة وراء ظهورهم، إلا أنهم وعلى خلاف ما أعتقدوا، فإن فصلا جديدا من المعاناة، لا يقل كآبة عن السابق، كان ينتظر الليبيين، وكان عليهم تجرع مراراته دون أن يحسبوا له حسابه.

وقد تجلت فصول تلك المحنة،أو "المؤامرة" في وضع كثير من العراقيل،والصعاب في طريق بناء حكم ديمقراطي، يحل محل النظام الشمولي الاستبدادي المنصرف،الذي جثم علي صدور الليبيين لأكثر من أربعة عقود متوالية.

 ولم يكن من العسير، تتبع خيوط هذه المؤامرة التي حيكت في الخفاء ضد إستقرار الليبيين ودولتهم ،فقد لاحظ كل المتابعون آثارها التي تقود الي مصادرها التي تحرك أدواتها علي طريقة مسرح العرائس،خدمة لأغراض وأجندات الخاصة، مرتكزها على هدف واحد هو إجهاض أي محاولة لحصول انتقال مرن،وسلس من مرحلة "الفوضى الثورية" التي أعقبت سقوط نظام القذافي إلى مرحلة جديدة،ينعم فيها الليبيون بالاستقرار،وإعادة بناء دولتهم بعد الحرب.

وأيضا للحيلولة بين اللبيين وبناء نظام  حكم ديمقراطي،حلمو به وضحوا من أجله، بدماء المئات من شبابهم الذين ثاروا ضد "معمر القذافي"،وروت دماؤهم أرض ليبيا ثمنا لحلمهم بالحرية، والعيش الكريم الذي حرمهم منه القذافي طيلة اربع عقود. 

 حيث كان الشباب الليبي المتحمس،والمتعطش للحرية في آن معا، يحدوه الأمل في أن تنبت دماؤه الطاهرة التي روت بغزارة أرض ليبيا_أثناء الثورة وقبلها_،نظام حكم ديمقراطي، يوفر لهم حكامة رشيدة، تنسيهم ويلات سنينهم السوداء تحت حكم الدكتاتور معمر القذافي، الذي ظل يسوم الليبيين طوال سنين حكمه سوء العذاب،حيث كمم الأفواه، وصادر الحريات، وملأ السجون،وشرد الآلاف من اللبيين في المنافي خارج بلادهم.

 

لقد قرر  إذن "حلف" الثورة المضادة،أن يعاقب الشعب  الليبي على ثورته التي خلصته من نظام القذافي،ولم يكن الليبيون استثناء في ذلك، فقد مر المصريون،والسوريون، واليمنيون بمثل ذلك وأكثر،بل ولاتزال شعوب تلك الدول، تتجرع أقوي العقاب من قوى الثورة المضادة،التي تري أن تلك الشعوب قد "أجرمت" بإسقاطها لتلك الأنظمة،والتي لولا تماهيها مع مصالح الغرب،لما استمرت طوال تلك المدة،خاصة أن بعض تلك الأنظمة؛قد تجاوزت في الحكم أربعة عقود من الزمن .

  وقد ركزت الخطة على إنهاك الليبيين من خلال إشاعة "الفوضى الخلاقة" بالاحتراب الداخلي،وعبر إذكاء التناقضات داخل المجتمع،وفيما بين نخبه السياسية والفكرية والإيديولوجية، وبينها وبين القوي الثورية التي خاضت بالأمس ثورتها في إنسجام،لم تشبه شائبة،فإذا بها قد دخلت فجأة في صراعات مختلقة،  أذكتها الثورة المضادة بواسطة زرع الفتنة بين ثوار الأمس أعداء اليوم، رغم أنه لم يكن لتلك الصراعات أي وجود أثناء الثورة. 

وقد كان ذلك غالبا من تدبير القوي الإقليمية مسنودة بقوى أخرى دولية المضادة للثورة، التي توحدت مصالحها حول هدف إجهاض الثورة الليبية،كما هو القرار في بقية بلدان ثورات الربيع العربي. 

هذه الفوضى العارمة،وما رافقها من فقدان الأمن  في كافة أرجاء الدولة، زاد عليها معاناة الناس العاديين بسبب غياب أغلب الخدمات الأساسية الضرورية لحياة المواطنين، كالماء، والكهرباء،والدواء...إلى غير ذلك من ضروريات الحياة،التي كانت ستوفرها الدولة في الظروف الطبيعية،لو توفر الاستقرار لبلادهم. 

 كل تلك المنغصات،وأكثر منعت تكالبت على اللبيين، لجعلهم ينقمون على "الثورة"  ظنا منهم أنها سبب شقائهم الراهن،وهذا جزء مهم من خطة القوي المناهضة للثورة، حيث إنه يمهد الطريق لتمرير مخططها الساعي الي تنصيب حاكم عسكري جديد لليبيا،يكون وفق أهواء تلك القوى،وخادما لمصالحها.

 

كيف تشكل معسكر الثورة المضادة

بخلاف المعلن فإنه يكاد يكون من شبه المسلم به في الغرب،أن  نشأة أنظمة ديمقراطية في منطقتنا العربية والإسلامية،أمر غير مرغوب، وذلك رغم أن السياسة الرسمية للأوروبيين والأمريكيين،تضع في أولوياتها تشجيع الديمقراطية،وحقوق الإنسان في العالم،ولكن ما يعلن شيء،وما يطبق في الواقع شيء مختلف عن ذلك،فالغرب يري أنه من الأنسب لرعاية مصالحه،أن تحكم دول المنطقة بدكتاتوريات بحيث يكون ولاؤها للغرب حتى لو كلف ذلك أن تأتي عبر انقلابات عسكرية،تبنى من خلالها أنظمة،تحدد هويتها بعناية وتحت أعين الاستخبارات الغربية، لكي يضمنوا ولاءها للغرب ومصالحه.

 وقد تحولت هذه الحقيقة إلى ما يشبه الثابت في سياسات الأوربيين والأمريكيين، في وقت مبكر من القرن الماضي،الأمر الذي  يفسر ضلوع الأوربيين في تنفيذ معظم الإنقلابات التي وقعت في منطقتنا العربية خلال القرن الماضي،وقد تحدثت كثير من الملفات عن ذلك، بل وحتى من بين الضباط الذين قامو بتلك الانقلابات، حيث ذكروا ذلك في كتبهم بعد ذلك، وبعد خلافهم مع أقرانهم من الضباط الذين قاموا بتلك الانقلابات.

 

ويمثل كتاب الكاتب الأمريكي "ماليز كوبلر"  Miles Copeland)) 

لعبة الأمم ( Nations Game) وثيقة مهمة،سلط خلال الضوء على ما كان يحدث في الخفاء، حيث روى الكاتب،وهو ضابط سابق في الاستخبارات الأمريكية،كيف خططت أمريكا مع أغلب الضباط الذين قاموا بالانقلابات العسكرية في الخمسينات،والستينات؛وحتي السبعينات،وما بعد ذلك للوصول إلى السلطة،بل ومهدت لهم كل السبل للاستمرار فيها بعد ذلك.  وقد حدث رغم مثالب تلك الأنظمة،وفشلها الذريع على مستوى التنمية،فضلا عن الديمقراطية،والحرية،كما هو الحال في مصر،وسوريا،وليبيا، والعراق،وتونس. 

(وقد نعود لاحقا بشيء من التفصيل لموضوع تلك الانقلابات).

لقد  مثلت رأس الحربة في "حلف" الثورة المضادة للإجهاز على الثورة الليبية،وبشكل بارز دول المنطقة التي ترى أن ثورات الربيع العربي،قد تهدد

" استقرار" أنظمتها،فهي تخشي من عدوي ثورات الربيع العربي على ما يبدو،وقد مثل هؤلاء كل من الإمارات العربية المتحدة، ومصر،والأردن. مدعومين من  من روسيا،وفرنسا،وألمانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، بدرجات متفاوتة طبعا في مستوى الدعم العسكري،والسياسي .

فقد دعم هذا الحلف المكون من قرابة عشر دول تقريبا رجل الثورة المضادة في ليبيا الجنرال "خليفة حفتر"، الذي التحق  بالثورة بعد اندلاعها قبل سقوط القذافي. 

وقد عمد خليفة حفتر بإيعاز من حلفائه إلى تشكيل مليشيا في "بنغازي" في الشرق الليبي أطلق علي هذه المليشيا اسم (الجيش الوطني الليبي).

 وقد تكونت تلك الميليشيا من مجموعات ميليشياوية قبلية صغيرة من أنصار القذافي،تدعم الثورة المضادة، وترى أن "سيف الاسلام القذافي" هو الأجدر بحكم ليبيا بعد والده معمر القذافي،وقد التحق أيضا بهذه  المليشيات مجموعات مدخلية، سلفية،متشددة،شكلت هي لأخرى مليشيا،انضمت لخليفة حفتر.

كما تم بعد ذلك جلب مجموعات من الشباب السوداني،والتشادي العاطل عن العمل،وضمهم لمليشات خليفة حفتر كمرتزقة،تقتل مقابل المال تحت ضغط الحاجة بسبب الفقر.

ثم جلبت روسيا هي الأخرى بعد ذلك مليشاتها الخاصة بها من مرتزقة "الفاغنر" الروسية،وتم ضمها لميشيا حفتر المسماة ب(الجيش الوطني)،وأصبحت تقاتل الليبيين لإخضاعهم لحفتر مقابل وعود لروسيا بتقاسم الكعكة الليبية مع الأوروبيين والأمريكيين.

ووسط تكالب القوي الإقليمية، والدولية على الثورة الليبية للإجهاز عليها،وإجهاضها،وإعادة الشعب الليبي إليى حكم عسكري، جديد،قد يكون أسوأ من سابقه،لجأت حكومة الوفاق الي البحث عمن يساعدها في وجه هجمة،شرسة،تضم أغلب القوي الكبري في العالم، فقامت بإبرام اتفاقية تعاون أمنية، وعسكرية مع تركيا،تقوم بموجبها تركيا بتسليح،وتدريب القوات التابعة لحكومة الوفاق الشرعية.

وقد أعلنت الحكومتان هذا الاتفاق،وتم تسجيله لدى الأمم المتحدة كاتفاقية دولية،ما جعل الدعم التركي متفق مع القانون الدولي،الأمر الذي أحرج القوي الدولية الأخرى،التي تقوم بدعم مليشيات "خليفة حفتر" التي تحارب الحكومة الشرعية المعترف بها من المجتمع الدولي.  وهذا ما أظهر الفرق بين تدخل القوى المناهضة للثورة الليبية، حيث إن دعمها،يقدم من تحت الطاولة،ويتحرج أصحابه من الاعتراف به،وبوجوده، لعلمهم بعدم شرعيته،فيما تعلن تركيا عن تدخلها ودعمها، لكونها تتدخل لصالح حكومة ليبية،معترف بها من العالم أجمع.

وقد كان من نتائج الجولة الأخيرة من الصراع الذي دعمت فيه تركيا الجيش الليبي التابع لحكومة الوفاق؛أن حققت هذه الأخيرة مكاسب ميدانية كبيرة، ما كانت لتتحقق لها لولا دخول عامل السلاح التركي النوعي إلى المعركة .

فقد سيطرت قوات الوفاق على كافة المدن الساحلية في الغرب الليبي،حتى وصلت الحدود مع تونس.

ثم تلا ذلك استرجاع قوات الوقوف التابعة للحكومة الشرعية للسيطرة على قاعدة يوسف بن تاشفين المعروفة بقاعدة "الوطية" الجوية ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة، وهي القاعدة التي ظلت لفترة طويلة تحت سيطرة مليشيات خليفة حفتر. 

ثم تتابعت بعد ذلك هزائم خليفة حفتر،حيث اضطر للانسحاب من غالبية المواقع في جنوب طرابلس،التي كان قد احتلتها ميليشياته جنوب طرابلس .

وما تبع ذلك من حصار قوات حكومة الوفاق مدينة "ترهونة" الاستراتيجية المهمة،والتي تتوارد الأنباء عن سقوطها أيضا في يد حكومة الوفاق. 

كل هذه الأحداث الدراماتيكية التي وقعت علي الساحة الليبية في فترة وجيزة؛وخلال الأيام القليلة الماضية، كانت كلمة السر فيها هي تدخل السلاح التركي المتطور الي ساحة المعارك في ليبيا، وخاصة الغطاء الجوي الذي وفرته تركيا عبر طائرات بدون طيار  "برقدار" التركية دقيقة التصويب،التي حولت ساحة المعارك إلى حطام للمعدات الخصم القتالية من طائرات، وأنظمة مضادة للطائرات مثل المنظومة الروسية " باستير" التي قضي عليها قضاء مبرما،لم تشهد له مثيلا خلال الأيام الماضية في المعارك العسكرية في ليبيا.

حيث تم تدمير أعداد كبيرة من منصات المنظومة الروسية المتطورة المضادة للطائرات وخاصة المسيرة منها،وقد وصفت عمليات تدمير منظومة "باستير" في ليبيا والكفاءة التي تمت بها؛وأظهرته الطائرات التركية في الفيديوهات التي شاهدها العالم بأنها غير مسبوقة،

حيث بدت الأجواء الليبية تحت السيطرة الكاملة لقوات حكومة الوفاق،وهو مالم يحدث من قبل هذا منذو 2015 تاريخ نشوب الحرب الليبية الأخيرة .

 وقد ظل الغطاء الجوي حكرا علي ميلشيات خليفة حفتر لوحدها،مما مكنها من التفوق على الأرض عبر غطاء جوي من الطائرات الإماراتية والمصرية، وأخري مسيرة روسية،وصينية، كانت تنطلق من خارج الحدود لضرب أهداف داخل ليبيا،ثم تعود إلي قواعدها،وقد أسقطت قوات حكومة الوفاق بعضا من تلك الطائرات خلال معاركها مع مليشيات خليفة حفتر.

إن حقيقة ما يجري اليوم على الأرض الليبية،هو أنها حرب بين الشعب الليبي الطامح إلى الحرية،والديمقراطية،وبين قوى دولية،ووكلائها الإقليميين بهدف إعادة الليبيين،وبلادهم مرة أخري إلى نادي الدول المستبدة، وذلك عبر تنصيب حاكم عسكري جديد علي ليبيا هو خليفة حفتر، وعليه فالأمر يتعلق بصراع إيرادات.

والنصر في النهاية سيكون حتما حليف الشعب الليبي،لأنه ببساطة صاحب قضية،ولايمكن أن تهزمه جحافل مرتزقة،تجلب إلى أرضه من هنا،وهناك لنصرة حفتر، وماهو بمنتصر.

جمعة, 05/06/2020 - 21:30