من الذي سرق المصاحف!!؟... قراءة لفهم الواقع وترتيب الأولويات

يحكى أن كُتُبِيّا كان يعرض بضاعته من الكتب على الرصيف دون رقيب لكنه قبل أن يغادر المكان يعلق عليه لافتة كتبت عليها العبارة التالية: من يقرأ لا يسرق .. ومن يسرق لا يقرأ.

لقد علمت التجربة هذا الكتبي أن اللصوص لن يقربوا بضاعته لأنهم لا يقيمون وزنا للكتب فهم إنما يبحثون عن ما غلا ثمنه من ذهب وجواهر ومقتنيات ثمينة..

في أوربا توجد داخل محطات القطار والمترو Métro والمراكز التجارية الكبرى أجهزة أتوماتيكية لبيع الحلويات والمشروبات. وخلال فترة دراستي في باريس صادفت مرات قليلة يتعطل فيها ذلك الموزع الآلي نتيجة خلل داخلي ويلقي ما في جوفه من سلعة شهية ولذيذة. ولقد شاهدت بأم عيني كيف ينهال بعض الناس على تلك الحلويات والمشروبات فينهبونها نهبا سريعا جهارا في مشهد عجيب يعكس التناقض الكبير في ثقافة بعض المجتمعات الغربية.

ولعلك أيها القارئ الكريم قد شاهدت عمليات السطو والنهب التي رافقت المظاهرات والاحتجاجات على مقتل جورج فلويد في الولايات المتحدة الأمريكية. المفارقة في عمليات النهب تلك التي وثقتها كاميرات المراقبة أنها طالت كل شيء إلا سلعة واحدة لم يكترث لها أحد من اللصوص وهي الكتب. لقد تم إفراغ بعض المتاجر من محتوياتها ولم يبق إلا رفوف الكتب لم تطلها يد السلب والنهب!!

لقد كاد هذا المشهد أن يكون دليل صدق على مقولة الكُتبُي آنف الذكر، لولا أنني عايشت حالة واحدة ناقضت قاعدة: "من يقرأ لا يسرق .. ومن يسرق لا يقرأ ". ولعلها استثناء من القاعدة أو كما يقول الفرنسيون: L’exception qui confirme la règle، صليت مرة في أحد مساجد تفرغزينه أرقى أحياء نواكشوط وقد لاحظت وجود مصاحف غاية في الجمال وحسن التجليد والتنميق.ثم لبثت مليا وعدت إلى ذلك المسجد فلم أجد أيا من تلك المصاحف الجميلة التي كانت في خزانة الكتب. عندها سألت المؤذن عن مصير تلك المصاحف فرد قائلا: لقد سرقت كلها!!

إننا في الواقع لسنا أميين أي أننا نستطيع القراءة والكتابة كفعل ميكانيكي لكننا في الغالب لا نحسن استخدام القراءة أو الكتابة حال كونها مجهودا فكريا أو ذهنيا. وفي هذا المستوى من القراءة تطالعنا وسائل التواصل الاجتماعي بأنماط من التفكير السطحي والفهم الساذج للواقع الذي نعيشه اليوم. آراء لا يرى أصحابها الدنيا إلا بلونين أبيض أو أسود. آراء تفتقر كثيرا إلى الأخذ بفقه الأولويات أو مقاربة ترتيب الأولويات. لن أعيد تكرار مضامين تلك التدوينات فنظرة سريعة على الفيسبوك تكفي للاطلاع عليها. أصحاب تلك الدعوات هم في الغالب من الشباب المثقفين الطيبين لكن تنقصهم الحنكة السياسية وتعوزهم القدرة على النظر إلى مآلات الأمور وفهم تعقيدات الواقع. إن قرأت لهم حسبتهم يعيشون ثورة ستأتي على الأخضر واليابس وتقلب الدنيا رأسا على عقب وتحول الصحراء إلى بحيرات ووديان!!! قوم يقطفون الثمرة قبل إيناعها، يستعجلون النتيجة قبل أوانها.  يطالبون دولتهم بالكثير ولا يبذلون الجهد اليسير.

لنأخذ كمثال وباء كورونا الذي اجتاح العالم ولم تسلم من تداعياته أمة من الأمم. لقد تابعت يوميا تطور الجائحة في فرنسا وهي إحدى أغنى دول العالم وأجودها من حيث التغطية الصحية. نسبيا، لم يختلف الأمر كثيرا عن الحال عندنا من حيث القدرة على التخطيط الإستباقي الذي يتهم بعضنا الحكومة بالفشل فيه. في فرنسا اتفق الجميع على تأجيل محاسبة الحكومة إلى ما بعد انتهاء "الحرب" ضد كورونا. أما في بلدنا فقد انشغلنا بانتقاد عمل الحكومة بل والسخرية منها ونحن في معمعان المعركة. لقد نسينا أو تناسينا أن هذه الجائحة أخذت العالم كله على حين غرة ولم يسلم بلد من تبعات سوء التخطيط والتدبير لهذه الجائحة بما في ذلك الصين والولايات المتحدة وبريطانيا. 

ثمة جملة من المؤشرات التي تشير إلى أننا نعيش الآن في ظل حكم ذي إرادة سياسية راسخة في الإصلاح وأقول ذلك اعتمادا على معطيات متعددة يضيق المقام عن ذكرها لكننا نستعجل النتائج وهذه من طبائع الإنسان.
علينا كمواطنين أن يسأل كل واحد منا نفسه السؤال التالي: بماذا أعنا الحكومة على إنجاح خطتها للحد من تداعيات الجائحة؟ أخشى أن يصدق فينا قول عبد الملك بن مروان:

"ما أنصفتمونا يا معشر الرعية، تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر !
ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر! نسأل اللّه أن يعين كلاً على كل ".

 

لا بأس، والحال هذه، أن نأخذ قسطا قليلا من القراءة الواقعية التي قد تساعدنا في فهم الحاضر واستشراف المستقبل. لما قتل أمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضي الله عنه تعالت أصوات تطالب بالقصاص من قتلته، لكن أمير المؤمنين عليا بن أبي طالب رضي الله عنه رفض أن يبدأ بالقصاص من القتلة وآثر أن يبدأ بتثبيت أركان الحكم بضمان مبايعة المسلمين له.  وكان رضي الله عنه يعلم أن المتمردين والمرجفين في المدينة قد تمكنوا من استدراج العوام وينشرون الشائعات بين سكان عاصمة الدولة ولو بدأ بالقصاص أولا فلربما أدى ذلك إلى مفسدة أعظم. 

في منطق الحرب لا ينتقص من منزلة القائد عدم المشاركة في المعارك لأن دور القائد يتمثل في التخطيط وتحديد الأهداف وكسب المعركة بأقل الخسائر ولأن مشاركته في المعركة تحمل مخاطر كثيرة بخلاف لو لم يشارك. 

وأريد أن أعود الآن إلى حادثة سرقة المصاحف التي أوردتها آنفا، والسؤال المحير الذي لم أجد له جوابا هو: من الذي سرق المصاحف؟

لكن رغم بشاعة هذا العمل الذي اشتمل على قبائح أخرى منها أن المسروق مصحف كريم وأنه سرق في بيت من بيوت الله وهو المسجد إلا أن هذا الفعل الشنيع يحمل في نظري معنى عظيماإذا ما قرأناه قراءة معمقة متأنية. واللبيب تكفيه الإشارة. 

سبت, 13/06/2020 - 09:05