وداع النهاية !/ تقي الله الأدهم

للعنوان حكاية ،ففي تسعينيات القرن الماضي ،كنت أعد وأقدم برنامجا تلفزيونيا يجمع بين شاعر وفنان ،لرفع الستار عن كواليس لقائهما وخلق ثقافة نقدية أدبية وفنية تهز الركود والرتابة في ساحة طوقتها قيود المجتمع وأشياء أخرى يضيق المقام عن سردها وتبيانها.

كان للبرنامج متابعوه وجمهوره، رغم نقصه وهفواته . وحظي مرات عديدة باستضافة أسماء كبيرة في عالم الأدب والفن

ذات مساء ، تقررتوسيع دائرة الضيوف لتشمل مبدعين من خارج الموالاة السياسية حينها ، ووقع الإختيار على الشاعر الشاب الدكتور بدي ولدأبنو ،العائد لتوه من عاصمة الأنوار لزيارة ذويه في انواكشوط وضواحيها.

وبسهولة وسلاسة ، قطعت والدكتور بدي أبرز مراحل تحضير الحلقة :

اتفقنا على اختيار  الطرف الثاني.

وعندما طلبت منه النص الشعري المرشح للأداء ،فاجأني بقوله :المجموعة الشعرية بين يديك ،وأنت من سيختار.

رفضت واعتذرت ،لكنه أصر .

قلت في نفسي: لعله أراد عدم إحراجي ،و تمكيني من اختيار نص لايثير جدلا ، ولا يفتح أبوابا واسعة للتأويل السياسي..

قرأت المجموعة وحيدا في لحظات صفاء واسترخاء وجلست حائرا مشدوها أمام عبقرية الرجل وأخيلته المجنحة ،وسافرت بين سطور أخاذة  وحروف وارفة الظلال.

أعدت القراءة ، ووضعت الكتاب جانبا لأبحث عن الكلمات الحاضرة بقوة في ذهني ،وإذا بي أردد على لسان الأستاذ بدي:

وداع النهاية هو النهاية 

وحيث النهاية لا تستحيل ..

 وقع الإختيار على نص تضمن أسى الوداع وزفرات النهاية .

قال بدي في بداية الحلقة إن اختيار القصيدة شكل في نظره ميلادقصيدة جديدة !

خلال التسجيل كان بدي يتصبب عرقا ويذوب في النص أثناء القراءة بشكل مثير ،دفع سيدة من الحضور للتقدم نحوه بمنديل لمسح وجهه ، لكنه رمى المنديل في لحظة إبداع ،هازئا بضوابط المنطق ..وصولجان الأضواء.

هل حملت الكلمات وطريقةالإلقاء إحساسا- والشعراء مرهفو الأحاسيس - ببداية نهاية حضارة بهرتنا وأوقعت الكثير من أبنائنا في أوهام الضعف والإستلاب؟

 على أية حال بثت الحلقة وعاد الشاعر إلى مهجره .. ولم أحظ بشرف لقائه،بعد ذلك خلال زياراتي العديدة لفرنسا.

مضت سنوات لم أتخل خلالها عن العودة إلى ذلك النص ، كلما استسلمت للتأمل والتدبر .

وكنت أردده بعفوية كلما زرت باريس وسط إحساس دافق بأن الأنوار تتراجع أمام ظلام دامس .

وأن مدرسة فيكتور هيجو Victor Hugoأوصدت أبوابها بعد أن فشل روادها في امتحان احترام الآخر وتكريس ثقافة الاختلاف.

ومرت الأيام ليتم الشروع في اغتيال فلسفة الأنوار، ووأد "الحرية والمساواة والأخوة "(liberté ,égalité,fraternité ) بأيدي غرباء جهلاء ،قادهم الشؤم وسوء الطالع لهدم صروح فكرية ،لحظة قراءة خاطئة وتأويل فاضح مكشوف لمفهوم "الحرية".

أية حرية تلك، بل أي غباء يسمح بتطاول السفهاء على الرحمة المهداة، والإصرار على إعادة نشر الرسوم المسيئة ؟!

ألم يعد في مدنكم حكماء يزجرونكم عن ركوب الأعناق واتباع الهوى والغي ؟!

أوليس من بينكم -على الأقل - برجماتيون يخشون شظف العيش وقلب الطاولة على الرؤوس؟!

خفتت الأنوار .. وانتحرت الرؤى والأفكار ..

إنكم مغرقون ..

حانت لحظة " وداع النهاية" ، فاشهدوا وليشهد غيركم ، أن قناعتنا الراسخة ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها : 

 

ياهذه الدنيا أصيخي واشهدي     *             أنا بغير محمد لانقتدي

اثنين, 02/11/2020 - 22:32