أرستوقراطية التعليم

إذا كان من المسلم أن نجاح مسار الأمم الوجودي المتوازن في هذا العصر يرتبط بالتعليم ومستوى وخرجاته، فإنه في هذه البلاد عرف انتكاسة كبيرة خلال العشرية المنصرمة مما ألقى بظلاله على مسارها التنموي وأحوال المواطن وخلق التباين وعمق الفوارق بين شرائح المجتمع ومكوناته حتى ضجت الساحة السياسية والحقوقية بالخلافات العميقة. 

وعلى هامش هذه الخلافات التي أضرت بالنسيج المجتمعي وهددت أركان السلم وقوضت المسار التنموي وعمقت الهوة بين القلة من المتخمين بالمال العام وبين الأغلبية الساحقة من المواطنين حتى باتوا يشاهدون ثروات بلادهم الكبيرة والمتنوعة تنهب بلا رحمة من طرف هذه المجموعة القليلة، وشاهدوا الفساد، يستنزف البلد ويقضي حلم البنا والعدالة والمساواة مكشوفا وبلا ولا حياء، يعم كل مفاصل قطاعات الدولة ومؤسساتها العمومية؛ فساد عارم طال الصحة والتعليم حيث سلما للـ"خصخصة" التي آلت بموجبها المصحات والمدارس إلى أفراد من ذات القلة النافذة والقابضة على المال العمومي ولتفتتح المؤسسات التعليمية والعيادات الطبية التجارية مدفوعة الأجر وتموت المدرسة الجمهورية ويغيب الاستطباب العمومي رويدا رويدا وعلى النار الهادئة للرأسمالية البشعة بالمال العام وإرادة السفهاء والمفسدين بلا أحلام للبناء. 

وسرعان ما هجر المعلمون المدرسة الجمهورية بدافع المغريات المالية إلى المدرسة التجارية للحصول على رواتب أكبر وكذلك فعل الأطباء وفنيو الصحة من المستشفيات والمستوصفات إلى المشافي التجارية وبتشجيع وحماية من أصحابها المالكين رجال الاعمال ولتحار وسماسرة التعليم والنافذين في دوائر الدولة الشركاء من المبيضين وحماة والمحميين في دائرة الزعامات التقليدية والعشائرية والتحالفات السياسية الانتفاعية. 

ولم تمض على قرار الخصخصة سنتان المرتجلة حتى استأثر كل هؤلاء، من أصحاب النفوذ واستغلال الوظائف العالية والمناصب التسييرية والمال السهل المحصل من النهب والاستحواذ على دوائره، بالتعليم الجيد لأبنائهم، وخارت قوى المدرسة الجمهورية ليجد أبناء الفقراء أنفسهم أمام الإهمال وأهلهم أمام الحيرة والامتعاض. وأما أبناء الأغنياء والنافذين فيبعثون إلى المداس الأجنبية ومنها الفرنسية والتركية، ثم يؤسلون ممنوحين إلى جامعات الخارج ومعاهده ليرجعوا بعد تخريجهم وقد وجدوا أمامهم أبواب التوظيف مشرعة. 

وبالطبع فإن هذه الحالة تسببت في ميلاد أرستقراطية "تعليمية" جائرة و"توظيفية" ماكرة تكرس الدولة شيئا فشيئا لطبقة قليلة من المحتالين الميسورين والمتنفذين والمقربين لدوائر القرار، وترمي إلى غياهب التهميش والنسان السوادَ الأعظم من أبناء الفقراء ويهجر الأولاد المدرسة في تسرب قسري إلى لقمة العيش العصية رغم غنى البلد وتنوع موارده. وضعية تمخضت عنها أرستقراطية غي التعليم واستحواذ على التوظيف واستئثار في التعيين.

وتأتي، في خضم هذه الوضعية الجائرة التي استحدثتها ثم كرستها العشرية تحت غطاء كثيف من القرارات الجريئة على هشاشة البلد، ووابل من المشاريع الكرنفالية الباهظة، خطوة إعلان رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني "انطلاق" الرجوع بقوة إلى أحضان المدرسة الجمهورية ـ التي كانت تلفظ أنفاسها ـ برسم تحقيق "إرادة" التصحيح الضروري والمستعجل الذي وعد بها.

ولا شك أن اختيار "امبود" محطة منتقاة لتجسيد إرادة عودة المدرسة إلى سابق عهدها لتجسيد عدالة التعليم واسترجاع أحد أسباب اللحمة والروح الوطنية، هو اختيار ـ إن تبعه الاستمرار على النهج الجمهوري ـ له دلالات عميقة يترتب عليها قيام الصرح على أسس متينة وثابتة وتمكن ضمن دورة إصلاح التعليم من بناء الطفل الموريتاني الذي سيصبح المواطن المحصن ضد الكراهية وكل أسباب التفرقة والغبن والاقصاء والتهميش.

فهل يلي الخطوة العميقة الدلالة والعظيمة المبتغى تقليص للهوة بين الأغنياء والفقراء بتوحيد الزي والمدرسي؟ 

وهل تعود الرحلات المدرسية الصيفية في أرجا الوطن؟ 

وهل يتوحد المنهج الدراسي ويخلو من الاصطفاف داخل المدارس الخصوصية والأجنبية إلى ذات مناهجها التي تدفع إلى المسخ الحضاري وإلى الابتعاد عن المفاهيم الوطنية وبدلا عنها تكريس إرادة الترفع والغبن والفساد وإرادة التسلط في غياب تام للوازع الديني والأخلاقي والوطني.   

 

أحد, 22/11/2020 - 23:28