كسر النخب كل عام خاطرَ الوطن

لا يعاني بلدنا المفجوع في كل نخبه الثقافية والعلمية والفكرية والسياسية من خور وعجز عن العطاء وإخفاق في حمل لواء التوعية والتشييد على الرغم من تخرج أفرادها في كل جامعات ومعاهد العالم ونهلها من كل ينابيع العلوم الإنسانية والأدبية والقانونية والتخصصات التقنية والعلمية والهندسية والاقتصادية، وغلى الرغم كذلك من مقدرات الأرض الطبيعية المتنوعة والوفيرة ومن موقعه الاستراتيجي الذي لا يضاهيه موقع أية دولة في شبه المنطقة، معاناةً أشد عليه وقعا في سلبيتها من الازدواجية الرابضة في عقلية "مجتمعه" وتُترجمها غالبية هذه النخب "لا إراديا" في السلوك الغير متحضر و"عمدا" بفعل بعضها الآخر، المارق على المدنية وضوابطها، وسط الغياب الكامل لأية إرادة أو طموح لديها جميعا لإحداث التحول الملح إلى واقع "وطن جامع" يسوده العدل و تظله الوحدة المفعمة بروح المواطنة ومحصنة بقيم الدين الخالص لله وبالديمقراطية نهجا سياسيا وبالعلم والعمل الميداني لتحقيق مسار تنموي مضمون ودائم.

إنها ازدواجية "الدولة" و"اللادولة" التي يتعامل معها، في ثنائية التناقض، وبمقتضاها المجتمعُ في جموده على قوالب الماضي بإقطاعيته المتجاوزة وتركيبته التراتبية الظالمة التي ما زالت عصية على مفاهيم الحداثة وبعيدة، بحمولتها القبلية والجهوية والشرائحية، عن سياقات دولة القانون المركزية ومفهومها الراقي وقد حلت في الشكل دون المضمون محل "اللادولة" التي كانت قائمة قبل الاستقلال ونعتها وأسماها بعض علماء السلف من الصالحين الأجلاء أرض "السيبة" نسبة إلى الفوضى العارمة التي كانت سائدة وطبعت النفوس بمتلازمتي الخوف والقهر. 

وتتجلى هذه الازدواجية في كل مجالات وأدوار الحياة بدء بطبيعة العلاقات الاجتماعية التي مازالت متوشحة لبوس الماضي القبلي والطبقي والجهوي والشرائحي، تسلب باسم الدين والفروسية الوطن هيبته وتدوس الوطنية في الصميم؛ ازدواجية سحبت كذلك جميع مفاهيمها على المعاملات السياسية منذ أن أوفد لها المستعمر الفرنسي الأطر الحزبية قبيل الاستقلال لتحل في البلد محل اللجوء إلى العنف والشطط المعاملاتي، الذين كانا منطقا سائدا وحده، ولتتأصل "محمدة" الاستقرار المدني عوضا عن "سيئة"  "الترحال" الانتجاعي الذي ترك على الرغم من ذلك كله روحه "أسلوبا" محبذا في النفوس وقائما في السلوك، وكرس ما كان من العزوف عن العمل إلى اعتماد جلبة التحصيل المحموم بكل الأساليب والوسائل الملتوية القابعة في اللاوعي من التحايل لا يخجل والنهب المتعمد بجرأة مكشوفة على التجاوز والفساد بلا خوف من وازع ديني أو أخلاقي أو وطني وبالاحتماء وراء القوالب "السيباتية" والفقه المقدود على مقاساتها.  

وقد تمخضت عن هذا السلوك ـ منذ الاستقلال ـ من بعد ما تقمص "الدولةَ" الحديثة تزكيةٌ "سيزيفية" للفئات المهيمنة، العشائرية واللوبياتية بالمال العام وقد أمسكت منذ ذلك الحين هذه الازدواجية بتناوب معلوم ـ وإن كان لا يفصح عن اسمه ـ بمقابض الدورة الاقتصادية والمالية والتحكمية في الرقاب من خلال الجرأة على النهب الممنهج لخزينة الدولة التي تمتلئ كل عام بمدخولات متنوع المعادن من حديد ونحاس وذهب، ومن ثروة سمكية كبيرة، ومن تحصيل هائل للضرائب المختلفة.

بمناسبة رأس السنة الجديدة ترحمت دول العالم على من رحلوا من فرسان العلم والأدب والفن فيها، تاركين لمكانتها مجدا سرمديا وللإنسانية بصمات خالصة خالدة. وبالفعل ترددت أسماء لامعة غيب الموت أصحابها من: 

ـ قادة سياسيين كبار صنعوا السلم وبنوا لبلدانهم صروحا عالية من الذكر والتقدير والحضور وتركوا بالكتبة الرصينة نظريات وطنية ومناهج نضالية،

ـ وعلماء رفعوا مكانة بلدهم بإسهاماتهم الجليلة وأضافوا بإنتاجهم وإصداراتهم المجددة واضافاتهم وإبداعاتهم وبصماتهم ونظرياتهم واجتهاداتهم في شتى الاختصاصات في العلوم الإنسانية والتكنولوجيا والتخطيط والاقتصاد والتسيير والاستشراف.

ـ وكتاب لامعين تحولت أعمالهم الكبيرة إلى أعمال درامية سينمائية ومسرحية كبيرة ترجمت إلى كل اللغات الحية، 

ـ وشعراء أضافوا على المشاعر الإنسانية رهافة وعمقا وأوسعوا للتقارب،

ـ وفنانين أسهموا بأناملهم في الكشف عن أبعاد مستترة للجمال والعلم ومتسع النفس البشرية من خلال حوارية الإضاءة والتبيان والأبعاد والظلال.

في بلاد المليونيات ترشحُ كل أشهر السنة بالسيَرِ الكثيرة لخوارق البشر من السياسيين والشعراء والعلماء والمحسوبين على الابداع في كل علم رفيع وفن بديع. وعند بداية كل عام جديد لا يذكر أحد ممن أدركهم الموت الحق، من أبطال هذه الروايات السردية العارمة والقصص الباذخة والملاحم البطولية الجامحة والالياذات الأسطورية، بأي إرث علمي ذي بال، أو أثر إبداعي في أي مجال، أو عمل اجتهادي باقي أو منهجية بحثية يسجلها التاريخ للأجيال. 

وإنه إن تم الكف عن الكلام الزائد الملقى على العواهن بلا رقيب فحتما سيقل الذي يبقى مما يمكث في الأرض ويخصب العقول وينفع المتعطشين إلى النهل من إنتاج محلي خالص يصنع في حضن الجد وبين أذرع التواضع.  

 

أحد, 03/01/2021 - 17:38