مقترح لتفعيل آليات الوقف الائتماني وتوسيع دائرة تطبيقها لكسب رهان التحديات البيئية في موريتانيا

تمثل التحديات البيئية  إحدى مرتكزات  الاهتمام الدولي منذ قمة الأرض في ريودي-جونوروْ سنة 1992.ومنذ بداية الألفية  ازدادت بوتيرة متصاعدة مكانة التطلعات البيئية عموماً لدى شعوب العالم  بشكل لافت وازداد حجم الرهان عليها في الخطابات السياسية  باعتبارها عامل تعبئة جماهيري لا يُستهان به داخليا وخارجياً.

في هذا السياق بات من الملحوظ أن  التيمات الأكلوجية تتصدر   -في كثير من الأحيان -قمة الاهتمامات المشتركة الكبرى  في محافل الدبلوماسية العالمية  ولاتنحصر دوافع هذا التوجه في مجرد ارتفاع وتيرة  التغيرات المناخية المشهودة وإنما يعود الأمر أيضاً إلى تزايد الإيمان مؤسسياً بأن هناك ترابط  وثيق بين مستوى الالتزام البيئي  ومستوى النجاح التنموي وفق مؤشرات تحقيق  التنمية المحلية بشكل متزن وقابل للديمومة.

ويرى بعض المراقبين لأجندات  الدبلوماسية  الدولية  أن عام 2021 سيكون مفصليا و متميّزا من منظور  ارتفاع منسوب تداول قضايا البيئة والتغيرات المناخية والتنوع البيولوجي حيث ستعقد فيه بشكل مركّز عدة فعاليات دولية رئيسة منها مؤتمر الأطراف في الصين  مايو المقبل بشأن المناخ والتنوع البيولوجي والتصحر؛ وقريباً في باريس سيتم انعقاد الدورة الرابعة لمؤتمر قمة الكوكب الواحد في ١١ من يناير الجاري ، وسيكون موضوع هذه القمة يدور أساسا حول إشكاليات التنوع البيولوجي وآليات تعبئة التمويل لكسب الرهانات البيئية ويأتي انعقاد هذه الدورة الأممية  بتنسيق بين فرنسا صاحبة المبادرة بالأساس وبتعاون وتنسيق مع البنك الدولي وهيئة الأمم المتحدة وبمشاركة عديد الوفود السامية وممثلين كُثر عن منظمات المجتمع المدني العاملة في المجال.
هذا وفضلاً عن عمق الاهتمام الدولي  بالتحديات المناخية وتزايد التركيز على البعد البيئي عموما ً كعامل جذب للاستثمارات الدولية يبقى السؤال المشروع تلقائياً  هو كيف يمكننا تطوير وتحيين آليّات جديدة مبتكرة  لصياغة عقود التمويل الكفيلة باستحضار واجب الحفاظ على التنوع البيئي وفي نفس الوقت إرساء دعائم ما يمكن أن نُطلق عليه الاقتصاد  الأخضر. نقصد  هنا بمفهوم الاقتصاد الأخضر: جملة الأساليب الإستراتيجية والآليات  الاقتصادية والتمويلية والاستثمارية التي تسعى لتحقيق النمو والمردودية المالية-في  آن ٍ واحد -دون إلحاق أيّ ضرر  بالبيئة المحلية. وهكذا   تهتم  خيارات الاقتصاد الأخضر بتأويج الأثر الإيجابي لكل استثمار  مع العناية الخاصة  بمقومات وخصائص الوسط البيئي المحلي  والحفاظ على ثراء وديمومة  التنوع البيولوجي
‏( la biodiversité) 
 
وفي هذا الإطار يندرج  مقترح  الوقف الائتماني البيئي
‏  (fonds fiduciaire pour l’environnement 
الذي ندعو إلى تفعيله كصيغة تمويل منسجمة مع آخر ابتكارات الهندسة المالية. 

تكمن أهمية هذا النوع من العقود  الوقفية في كونها تُوفر آلية مرنةً  قانونياً وعابرةً للأجيال اجتماعياً لما تتيحه  من حيث ضوابط  الحكامة وسعة محيط التطبيق. ثم إن الوقف  ذا حمولة منسجمة مع تراثنا وثقافة بلادنا   من حيث هو في الأصل عقد شرعي يقتضي تحبيس  منفعة أصلٍ وتسبيل منفعته بشكل عام أو خاص حسب إرادة الواقف فرداً كان أو مؤسسة.

وإنّ من أهم التطبيقات المعاصرة  في هذا المجال: صناديق الائتمان البيئي التي تعتمد على إرصاد ماليٍّ لغرض سوسيو-أكولوجي  ولدينا في موريتانيا تجربة بهذا المجال تستحق التثمين والتوسيع نحو  فضاءات تنموية أخرى.

 إن هيكلة تمويل النشاطات البئية من خلال فكرة صناديق الائتمان الوقفي تُعتبر من أنجع الابتكارات المالية الغير هادفة للربح المباشر.  وتعتمد هذه الآلية على حشد تمويلات من روافد متعددة وصهرها في إطار "تراست فوند" صندوق وقفي  يتم بعد ذلك توجيه عائداته السنوية إلى تمويل جمعيات أو تعاونيات أو منظمات خيرية ذات أهداف اجتماعية أو بيئية إلخ.
عمليًا،  لعلّ  من اهم التجارب على المستوى الإقليمي تجربة  صندوق الائتمان البيئي الخاص بالحفاظ على التنوع البيولوجي في "الليتورال" الموريتاني والتي أعطتها حكومة بلادنا  عنايةً خاصة وسهلتْ للشركاء هيكلتها المالية بطريقة تمزج بين الخصوصية الموريتانية وآخر تطبيقات القانون المحلي و الدولي  الناظم لمؤسسات الإرصاد المالي ذي النفع العام.

يتعلق الأمر بما يسمي (FFC)  وهدفه الحفاظ على التنوع البيولوجي  للمنطقة الشاطئية و في حوض  آرگين  ومحيطه البيئي.

وللتذكير فإن مصادر  تمويل الصندوق أعلاه  تتأتى أساساً من دعم سيّادي صادر من الدولة الموريتانية ثم مساهمات مالية معتبره من التعاون الألماني (GIz) وكذا  من الوكالة الفرنسية للتنمية والصندوق الفرنسي للبيئة بالإضافة لدعمٍ من الاتحاد الأوربي ومساهمات ٍ مالية معتبرة من خيرية أسرة لوك هافمانْ المتخصصة في البيئة.
وقد مكّن َ إنشاء هذا الصندوق من دعم محميات الشاطئ الموريتاني وفي مقدمتها محمية حوض آرگين كما مكّن من تمويل عديد التعاونيات المحلية  في قرى إيمراكن وضواحيها.

نأمل بهذا الخصوص أن يتم استحداث صناديق بيئية أخرى لدعم المحميات الريفية ولإنقاذ الغطاء النباتي من تداعيات التصحر وشح الأمطار 
كما يمكن العمل على هيكلة صكوك سيادية كفيلة بتوفير رؤوس أموال تكميلية لتلك المبرمج عليها ابتداءً في ميزانيات الاستثمار.

ثم إنه تجدر الإشارة إلى أن البرنامج الأولوياتي الموسع لفخامة رئيس  الجمهورية  محمد ولد الشيخ الغزواني  أكد بوضوح  على ضرورة توفير الظروف المواتية لإقلاع اقتصادي مستديم وشامل ومبتكر للفترة  (2020 – 2022) وقد تضّمّن هذا البرنامج الأولوياتي الموسع  محورًا خاصاً بالتشجير وبفكرة تدعيم الأعمال  الخضراء  (les emplois verts )التي تمثل دعامة جوهرية للتنمية المستدامة وفي ذات السياق التنموي يندرج مقترحنا هذا والذي يهدف إلى الإسهام في جهود الربط بين الاقتصاد الأخضر  وهندسة العقود التمويلية ضمن مقاربة وقفية تصون رأس  المال وتُوفّر تغطية تكاليف مشاريع بيئية و مجتمعية  بالعوائد المالية فقط مما يضمن بقاء الأصل المالي  بشكل عابر للأجيال في إطار حكامة رشيدة مُحصّنة هيكلياً ومتعددة المنافع بيئياً واجتماعياً.

اثنين, 04/01/2021 - 00:09