.. ورحل القاضي العادل الذي بهر القضاة والمتقاضين

​في أتون سنوات الجمر والهدر والانحطاط التي عرفتها بلادنا أزمن التيه والهوان، كان قاض من ولاية لبراكنة (مگطع لحجار بالتحديد) يتولى منصب وكيل الجمهورية في عاصمة ولاية غورغول المنكوبة. كان يفترض أن يكون هذا المنصب مدرا للدخل آنذاك! فجل -إن لم نقل كل- كبار الموظفين في الضفة انتهزوا فرصة الفتنة العنصرية والتسفير، فأثْرَوْا ثراء فاحشا على حساب الشعب هنالك، وشارك بعضهم في جريمة نهب أموال المواطنين والأجانب وتسفيرهم ظلما وعدوانا! لكن وكيل جمهورية كيهيدي، السيد محمد فاضل ولد محمد سالم، ظل ثابتا على الحق، صادقا، عادلا، يقوم بوظيفته بأمانة وإخلاص وصمت، ولا يريد علوا في الأرض ولا فسادا.

​وفي يوم من الأيام، وعلى خلفية عملية سطو تعرض لها فرع أحد البنوك في كيهيدي زار المدعي العام لدى المحكمة العليا المدينة ففوجئ بانضباط وتواضع وبساطة وكفاءة واستقامة وكرم وأريحية وكيل جمهورية المدينة الذي استقبله في منزله وكان يقوم بخدمته بنفسه،والإجماع المنعقد على فضله في المدينة.. فقرر الاستعانة به في غابة نواكشوط. كان الرجل قويا ونافذا فكان له ما أراد، وحول وكيل جمهورية كيهيدي ليصبح رئيسا لأهم محكمة في البلاد يومئذ؛ ألا وهي الغرفة المختلطة التي لديها صلاحيات مدنية وجزائية واسعة! فجرت الرياح بما لا تشتهي سفن المدعي العام، ولم تغير حياة نواكشوط الصاخبة، ولا حياة الخليج الأشد صخبا (الذي هاجر إليه حين ضاق به وطنه كغيره من الصالحين) من طبيعة وفطرة وكيل جمهورية غورغول السابق، إلى أن انتقل إلى رحمة ربه راضيا مرضيا ليلة الخميس 7 يناير سنة 2021 تغمده الله برحمته وعفوه ورضاه.

​وسأكتفي في هذه العجالة التأبينية بتقديم نماذج قليلة من قضائه في الغرفة المختلطة في نواكشوط:

النموذج الأول: درج "عمل أهل المدينة" على الأمر بإجراء معاينة في كل ملف مهما كان وضوحه أو أهميته. ويقوم كاتب فيالمحكمة بذلك الإجراء الذي لا يضيف جديدا، ولا يرتب حقافي الغالب. ويأمر رئيس المحكمة للكاتب بأتعاب باهظة يتحملها أحرص الأطراف، أو تحمل عليهم جميعا. وكان أحد كتاب ضبط الغرفة المختلطة قد أجرى لتوه معاينة، ولسوء حظه ذهب سلف الرئيس الجديد قبل أن يؤشر له على تحديد أتعابه، فتقدم بالطلب إلى محمد فاضل فأشر له - بعد تبين وتريث- على أربعين ألف أوقية؛ وهي في عرف ذلك الزمن مبلغ زهيد لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يمكن تقاسمه أيضا!فثارت ثائر الكاتب ودخل غاضبا على محمد فاضل وهو يندب حظهالعاثر. فما كان من محمد فاضل إلا أن هدأه وخاطبه بأسلوبه اللين الهادئ المأثور قائلا: "حگ ذا اشوي يغير ألا حدُّ انتومه" (أكيد أن هذامبلغ زهيد، ولكنه يخصكم وحدكم!) ثم ما لبث أن أنهى نظام المعاينة الإلزامية الظالم.

النموذج الثاني: اختلف رجل أعمال شاب مع ديبلوماسيأجنبي، فكتب عنه مقالا هجائيا نشره على الشبكة العنكبوتية، فشكاهالدبلوماسي إلى النيابة فزجت بالمشكو منه في السجن عملا ببعض ترتيبات قانون الصحافة. فما كان من دفاعه إلا أن دفع أمام رئيس الغرفة المختلطة ببطلان المتابعة، لأن قانون الصحافة يومئذ يشترط في قبول تلك الدعوى أن تسبقها مخاطبة الدبلوماسي المتضرر لرئيس الجمهورية بواسطة رسالة. فأعلن محمد فاضل بطلان إجراءات المتابعة، وأمر بإخلاء سبيل الشاب! كان قراره بمثابة صاعقة نزلت على صديقه المدعي العام الذي حاول أن يثنيه، فرفض. فتوسط إليه بنائب رئيس المحكمة العليا الفاضل الشريف المختار باله (رحمه الله) الذي حاول أن يبين لصديقه ومرؤوسه حساسية القضية لتعلقها بممثل الاتحاد الأوربي في موريتانيا، ومتابعة الدولة على أعلى مستوياتها للملف،ومدى الاهتمام الذي يوليه المدعي العام له. فرد محمد فاضل في هدوء وهو يبتسم على صديقه ورئيسه قائلا: "أنتم على حق، ولكني لن أحكم إلا بالحق، ولن أخرق القانون. فإذا لم يعجبهم قضائي فليأخذوا مني رئاسة الغرفة ويعطوها لمن ينفذ أوامرهم، فأنا لم أطلبها منهم أصلا، ولا حاجة لي بها" فقال له الشريف المختار وهو معروف بصراحته واستقامته: "يا خويا والله يدنهم يكبظوها منك، انت بلا غايه فيها أهومهفاصلين فيها" (أي أقسم لك بالله إنهم سيأخذونها منك. فأنت لا تريدها وهم في أمس الحاجة إليها!).

​ومن نوادر قضائنا المطمورة أن النيابة استأنفت قرار رئيس الغرفة المختلطة فألغاه قاضي محكمة الاستئناف وأمر بإيداع المتهم السجن، وقال في تعليل قراره إن الشرط الذي أبطلت على أساسه إجراءات المتابعة متحقق، لأن الدبلوماسي كان خاطب رئيس الجمهورية برسالة. الشيء الذي لا أساس له من الصحة! فكان قرار رئيس محكمة الاستئناف أشد وقعا وأثقل على المدعي العام من قرار رئيس الغرفة المختلطة. فما كان من قاضي الاستئناف إلا أن حذف مسألة توفر الشرط من قراره وأبقى المنطوق. فوجدوا أن محامي المتهم كانوا قد أخذوا نسخة من القرار في شكله الأول، فأصبح يوجد قرار في نسختين مختلفتين، فأخفوا الأمر عن الدبلوماسي الشاكي لما فيه من عار! وظل رجل الأعمال طليقا. وما يزال ملف القضية نائما في أدراج مكتب المدعي العام رغم مرور أزيد من 20 سنة على النازلة!

النموذج الثالث، والأخيروالأهم: بعد نفيهما إلى واحة بوامديد في ديسمبر 1998 بتهم سياسية واهية، اتهمت النيابة زعيمياتحاد القوى الديمقراطية عهد جديد أحمد ولد داداه ومحمذن ولد باباه،وقدمتهما إلى المحاكمة أمام الرئيس محمد فاضل. كانت محاكمتهماحامية الوطيس زجت فيها الدولة بكل ما لديه من قوة، واختلقت ما تستطيع من أدلة الإثبات. وتعبأت جموع المعارضة الغفيرة للدفاع عن شيخيها. وكانت توجد آنذاك معارضة صادقة وقوية. واستمات الدفاع وتحفز، وتسلح بكم هائل من الأدلة والبينات على كيدية وبطلان الدعوى وهشاشة أدلة الاتهام. ويبدو أن الدولة فهمت من خلال سير المحاكمة أنها بحاجة إلى التحرك، وإلى البحث عن صيغة للضغط على المحكمة أكثر مباشرة وتأثيرا مما تقدمت به النيابة أمامها! وبينما كان فضيلة القاضي ذات ليلة بداره المغمورة في "لمزيلگه" إذا بمن يدخل عليه ويقول له إن سيارة متوقفة قرب الدار بها رجل مهم يطلب منه أن يخرج إليه. فرد القاضي بأنه لا يخرج إلى أحد؛ فليتفضل الرجل بالنزول من السيارة والإتيان إليه هو على الرحب والسعة. وبعد أخذ ورد، رأى الرجل أن لا مناص من النزول أو الرجوع خاوي الوفاض، فنزل ودخل الدار فإذا به وزير العدل آنذاك، فاستقبله الرئيس بما يليق من التقدير والاحترام. وبدأ معالي الوزير يشرح للرئيس مدى أهمية ومركزية الملف الذي ينظر فيه في تلك الفترة وتوقف مستقبل البلاد واستقرارها على حكم الإدانة المنتظر.. وكان كلما توسع معالي الزير في الموضوع، يؤكدله الرئيس أنه سوف يطبق القانون ويحكم بالعدل. وقد صارحه الوزير بأنه يريد منه ضمانة وبشارة يحملها إلى الرئيس الذي يهتم بالملف ويتابعه عن كثب. فقال له الرئيس أعطيك ضمانة وعهدا لن أخلفه بأني سأحكم بالقانون والعدل. وفي الأخير طلب الوزير من الرئيس ما يلي: نحن نريد منك أن تحكم لنا على المتهمين قبل العيد (وكانت تفصلنا أيام قليلة عنه) ونتعهد لك بأننا سنصدر عن المدانين عفوا في العيد.فقال الرئيس نعم أنا من جهتي أتعهد لكم بإصدار حكمي قبل العيد، وبأني سأطبق القانون وأحكم بالعدل.

​وفي الهزيع الأخير من إحدى ليالي المحاكمة، وكنا لفيفا من عشرات المحامين والحرب محتدمة وحامية الوطيس بيننا وبين النيابة، رفع رئيس المحكمة الجلسة للاستراحة، واستدعانا إلى مكتبه وقال لنا: "أيها السادة المحامون، إنني ألتمس منكم تخفيف التدخلات والجدل مع النيابة، فلقد قيل الأهم من طرف النيابة ومن طرفكم؛ وأقسم بالله الذي لا إله إلا هو أن لا أحكم إلا بالحق ولو قطعوا يميني هذه ورفع يده الكريمة اليمنى أمامنا.

​تقاصرنا ولخصنا وتجاوزنا وتعامينا عن بعض ردود النيابة وأجبنا على بعض. ووضع ملف القضية في المداولات. وفي مشهد مهيب ومهرجان كبير حضرته حشود كبيرة ومثيرة من مختلف الأعمار والأجناس وقف الجميع يحبس أنفاسه منتظرا نطق القاضي في ملف من أسخن ملفات ذلك العهد؛ وكان الشيخان الجليلان يرابطان في قفص الاتهام ليل نهار منذ أزيد من 10 أيام، يحيط بهما - ويحول بينهما وبين الجمهور المتحفز- مئات الرجال المستنفرين المدججين بالسلاح. وكان التوتر شديدا في القاعة وفي محيط المحكمة؛ منذرا بالانفجار في أية لحظة. وفجأة دخلت المحكمة القاعة، فأخذ الرئيس محمد فاضل ولد محمد سالم مقعده وقال: حكمت المحكمة ببراءة أحمد ولد داداه ومحمذن ولد باباه... فمادت القاعة وضج القصر ودوت الزغاريد والأهازيج وتعالى الصراخ والتصفيق... حكما أسأل الله عز وجل أن يظله به يوم لا ظل إلا ظله.

​رحم الله فضيلة القاضي العادل محمد فاضل ولد محمد سالم،وأسكنه فسيح جناته، مع الذين أنعم الله عليهم، وبارك في خلفه، وألهم أهله وأحبته وإخوانه الصبر والسلوان وجميل العزاء. إنه سميع مجيب. 

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

سبت, 09/01/2021 - 21:03