باحثة بيروفية: الأبحاث حول موريتانيا متأثرة جداً بالدراسات الاستعمارية وثقافة "الگبلة" (مقابلة) 

مارييلا فياسانتي سيرفيو، باحثة من البيرو تعمل منذ 1986 حول موريتانيا وقد سبق أن نشرت بالإضافة إلى بحث تخرجها الذي كان عن النظام العقاري في لعصابة، أطروحة للدكتوراه في الأنتروبولوجيا الاجتماعية وأصول السلالات البشرية، وموضوعها "أهل سيدي محمود" وعدة مقالات وندوات تتعلق أساساً بالمناطق الشرقية من البلاد، والتي لا تزال حتى الآن تحت الدراسة.
وتشكل أبحاث "مارييلا" مستقبلاً مرجعا للباحثين في هذه المناطق، وربما تشجع على ميلاد جيل جديد من الباحثين المهتمين بموريتانيا، وهي تعمل اليوم في معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي، التابع للمركز الوطني للأبحاث العلمية بفرنسا، وقد التقتها "القلم" خلال وجودها مؤخراً في انواكشوط وحاورتها حول مجموعة من القضايا.  

 

القلم: كيف اكتشفتم موريتانيا في البداية؟ 

مارييلا فياسانتي سيرفيو: كل شيء تم بالصدفة، فقد أكملت دراستي في جنيف (سويسرا) في 1985 ولم أتمكن من العودة إلى البيرو بسبب الحرب الأهلية وكانت لدي الإمكانية للبقاء وبقيت في سويسرا، وقد اقترح عليّ المعهد الجامعي للتنمية في جنيف عملاً حول موريتانيا، وقدمت مشروعاً للبحث في منطقة النهر، وجئت إلى موريتانيا في مايو 1986 بفضل الاتحاد اللوثري العالمي وجُبت الحوضين ولعصابة ومنطقة النهر، وكان المناخ قاسيا جداً، وفكرت في الانسحاب كل لحظة، وبقيت ستة أشهر في الريف بعدها أخذت شيئاً فشيئاً أتأقلم مع الحرارة، وهذه الطريقة في التعامل مع المناخ سهلت لي التكيف، كما أن اللطف والاستقبال الحار والإنساني لدى الموريتانيين بدد بسرعة ترددي. 
بدأت أهتم بشكل خاص بلعصابة، بعد الصعوبات التي واجهتها في منطقة النهر، الناتجة عن التوتر الذي كان موجوداً في تلك الفترة، وشرعت في العمل بداية من سبتمبر 1986 على موضوع "النظام العقاري في لعصابة" بغية تسريع عملي، كان ماثلاً أمام عينيّ أهمية أهل سيدي محمود من الناحية الديمغرافية، فمعظم الأراضي في "الرگيبة" مسجلة باسم مختلف فصائل أهل سيدي محمود، أيضاً قررت العمل في "تاريخ توحد أهل سيدي محمود" من نهاية القرن الثامن عشر وحتى اليوم، وهو ما أنجزته ما بين 1989 و1995، بعد أن أكملت عملي على النظام العقاري في لعصابة. 

 

القلم: إذن، أقمتم في موريتانيا بين 1986 و1995؟ 

مارييلا فياسانتي سيرفيو: لا، لم أكن مقيمة، فقد كنت آتي كل سنة وأبقى شهرين إلى ثلاثة، وأتابع لقاءاتي مع زعماء المناطق وجماعة أهل سيدي محمود، وأيضاً مع أشخاص لا علاقة لهم مع تلك القبائل، وعندما أعود إلى باريس، أواصل أبحاثي في أرشيف المستعمر، وما جئت به من هنا يتم وضعه أولاً في مختبر "ايكس أن بروفينس"، ثم يوضع في ميكروفيلم، ويرسل الميكروفيلم إلى باريس. 
 

 

القلم: ما هي الصعوبات التي واجهتك خلال اتصالاتك مع السكان والإدارة؟ 

مارييلا فياسانتي سيرفيو: اتصالاتي بالأشخاص كانت سهلة جداً فجماعة أهل سيدي محمود وجميع الأشخاص الذين التقيت بهم كانوا مستعدين وجاهزين للرد على تساؤلاتي دون أي مشكلة. وفي تلك الفترة كان الأجانب قليلين في داخل البلد، والنساء بشكل أقل، وبالتالي كانوا دائماً يتعجبونَ من رؤيتي، وكنت أخبرهم بأنني لست فرنسية، وهذا سهّل لي الكثير من الاتصالات، ولأنني أشبه البيظان في شكلي، فقد كان الكثيرون في الريف واثقين من أنني بيظانية حتى إن بعضهم قال إنني قد "اختُطفت" وأنا صغيرة وتربيت وكبرت بعيداً في بلد آخر، والآن أعود إلى أهلي وآخرون يعتقدون أنني في كل الحالات عربية، والأشخاص يوجهون لي الحديث بالحسانية في الشارع، وبالتالي فالمسافة بين المواطن والأجنبي تقلصت بيننا بشكل كبير لاعتقادهم أننا ننتمي لنفس الشعب.

 

القلم: وبالنسبة للسلطات الإدارية؟

مارييلا فياسانتي سيرفيو: لا أستطيع القول إنني واجهت صعوبات، باستثناء فترة معينة في "كيفة" ومع الحاكم الذي قال لي إنه ليس عنده ما يفيدني وليس عنده أرشيف، ولم أعرف ما إذا كان ذلك عائدا إلى الجهل أو سوء النية، وقد جعلني أنتظر حتى مجيء حاكم آخر يدعى محمد صباري، من ولاتة على ما أعتقد، لأحصل منه على الترخيص بالاطلاع على الأرشيف، وعلى النزاعات العقارية التي عرضت على السلطات الاستعمارية.
وأيضاً يمكنني أن أقول إنني لم أستطع مطلقا الاطلاع على الأرشيف الوطني، فترة التوتر في 1986 و1987، وأحداث 1989، ولدت حالة من التشنج والشك حيال كل ما هو أجنبي، وربما ذلك هو ما يبرر عدم استطاعتي الاطلاع في تلك الفترة على الأرشيف الوطني، وأعرف أن باحثين اطلعوا عليه لاحقاً، وأعرف أنني لم ألحّ كثيراً في ذلك. 

 

القلم: أي درجة من الحقيقة تعطينها للقاءاتك مع الأفراد والنقل الشفهي؟ 

مارييلا فياسانتي سيرفيو: لا أبحث من خلال هذه اللقاءات عن الحقائق التاريخية، وإنما هي استحضار لما يعتبره هؤلاء تاريخا بالنسبة لهم، وفي مرحلة ثانية أقوم بوضع التصريحات التي حصلت عليها موازاة مع الوثائق المكتوبة محلياً، إن وُجدت، ثم مع الأرشيف الاستعماري، بعد ذلك أحاول وبكثير من التطبيق وباستخدام الحدس والبديهة إعادة بناء الوقائع فالروايات الشفهية تتحول مع الزمن إلى توظيفها للحاجات الراهنة، السياسة والاقتصاد.. 

 

القلم: كيف وجدتم العمل الذي قام به حتى الآن الباحثون حول موريتانيا؟ 

مارييلا فياسانتي سيرفيو:  سأبدو متكبرة كثيراً إذا قلت إنني أعتبره قاصراً، فمن ناحية الأبحاث المتعلقة بموريتانيا غلب عليها ولفترة طويلة الاهتمام بالتاريخ القديم، وبشكل أكثر دقة، كان الكثير من الأنتروبولوجيين (الباحثين في علم الإنسان) والسوسيولوجيون (باحثي علم الاجتماع) الذين جاؤوا إلى البلد يهتمون بالمسائل التي تتعلق بالإمارات والمرابطين وبني حسان وبالأحداث التي اعتبروها المنشئة للمجتمع.
فنحن مثلاً نعرف القليل عن العلاقات بين الإثنيات (الأعراق) ونعرف أقل عن الأمور المتعلقة بالروابط بين التجمعات السياسية القائمة والتجمعات السياسية المجاورة مثل السنغال ومالي، وأيضاً مع "البيظان" في الصحراء الغربية، فالباحثون الذين جاؤوا للعمل على موريتانيا لم يعملوا بشكل كاف ميدانيا وقدموا رؤية متأثرة إلى حد كبير بالأعمال الاستعمارية، خصوصا التركيز على موضوع الإمارات. وما يمكننا قوله في كلمة واحدة عن النواقص، أنه ينقص الكثير من العمل في الميدان، إضافة إلى أن الباحثين عليهم أن يحاولوا إعادة بناء ما أخذوا يعتقدون أنه الحقيقة التاريخية الوحيدة في البلاد. هناك أيضاً الكثير من العناصر الناقصة والكثير من الثغرات، والمشكلة أنه لم يحاول أي من الباحثين الموريتانيين والأجانب العمل على تغطية تلك الثغرات والباحثون في الشأن الموريتاني (الموريتانيست) قليلون جداً مقارنة مثلاً بعدد الباحثين بعالم الطوارق.
هناك أيضاً مشكلة أخرى، وهي أن جميع الدراسات المتعلقة بموريتانيا تتوقف عند الحدود الموروثة عن الاستعمار، وكأن هذه الحدود تشكل فعليا نهاية حقل الدراسة، فمثلاً لا نستطيع التحدث عن الترارزة ولبراكنة، دون الحديث عن "والو" و"فوتا تورو" مع أن هذا هو ما يحدث حتى الآن، إذن نحن نعرف جيداً أنه منذ عدة قرون لم تكن توجد حدود تفصل بين النهر، و"الولوف" و "البيظان" يتعايشون في علاقات وطيدة في جميع مناحي الحياة السياسية كما الاجتماعية ونفس الشيء بالنسبة للمناطق الأخرى، ولا يمكننا كذلك الحديث عن آدرار دون التطرق إلى الحديث عن "الصحراء الغربية" وجنوب المغرب وأيضا الجنوب الجزائري، ولا يمكننا الحديث عن الحوض دون الحديث عن "أزواد" ولا عن "لعصابة" دون الحديث عن منطقة "خاي". 

 

القلم: بصفتك باحثة في "الأنتروبولوجيا" ما هو رأيكم في الديمقراطية القبَلية؟ 

مارييلا فياسانتي سيرفيو: غالبا ما يقولون في موريتانيا إن الديمقراطية كانت رجوعا إلى القبيلة، وما نسميه القبلية هو شعور بالانتماء إلى نفس المجموعة وهو شيء ظل موجوداً منذ القدم، وما تغير مع حدث الديمقراطية هو أن القبيلة ظهرت كعنصر أساسي في الساحة السياسية، وهو ما نعتقد أنه استراتيجية للحكومة الموريتانية لبناء أحزاب سياسية على النمط الغربي للتسمية، وبرامج سياسية، ومشاريع مجتمع تعيش لفترة قصيرة، وبسرعة أظهر النظام عدم رغبته المطلقة في خلق ثقافة سياسية جديرة بهذا النعت (بالمفهوم الغربي).
وأخذ في البحث عن الدعم السياسي لدى الزعامات القبلية والمدنية، وهذه الطريقة في الدعم القبلي هي إحياء للعمل السياسي الذي كان موجوداً في فترة الاستعمار وتحت حكم المختار ولد داداه، والهادف إلى مراقبة أقوى للسكان، واليوم أغلبية المشايخ القبلية ليسوا سوى أداة لهذه الرقابة، فالنظام القائم يحاول إخفاء المطالب، ويستخدم الوسائل الصارمة لضمان المصالح الذاتية للجماعات القبلية والإثنية والجهوية كأداة محتملة لإعادة إنبات طبقية نخبوية. 
من جهة أخرى، هناك استخدام للدولة من طرف المشايخ والزعامات القبلية خصوصا بعد إفقارهم بفعل الجفاف والتصحر، فهناك تنافس حقيقي على الامتيازات المادية والمعنوية كالمناصب في الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي، فمثلاً الرئيس ولد الطايع زار مؤخراً منطقة لعصابة، وهي منطقة لم ينجز فيها شيء باستثناء الكهرباء، وحيث إن أهل سيدي محمود وهم يشكلون أغلبية لم يحصلوا على أي "شكر" مع أنهم وعلى غرار المجموعات القبلية الأخرى في لعصابة، تحركوا لأجل استقبال الرئيس لأن هيبتهم على المحك، وهي فرصة لإظهار قوتهم وثرائهم، رغم أن النظام من وجهة نظره "يفضل دعم اشراتيت الأقلية" الذين يراقبون أفضل، ولا يعطي دعمه (النظام) للمجموعات "الأقوى" التي يمكن أن تشكل خطراً محتملاً. إن سياسة النظام تؤدي بقبول الموريتانيين إلى إضعاف أحزاب المعارضة. وللإحاطة بهذا السؤال عن الديمقراطية القبلية سأسترجع ما سبق وكتبته في ملخص كتابي "القرابة والسياسة في موريتانيا" ففي سؤال المعرفة ما إذا كانت الأمة الموريتانية يمكن أن تبنى على أساس التماسك والتضامن الاجتماعي، كنت قد كتبت أن تحليل حالة أهل سيدي محمود يوضح أن المصطلحين ليسا متناقضين، وأن الأهداف السياسية لمجموعة قبلية يمكن أن تحل دون مشكلة داخل إطار أوسع للأهداف الوطنية.
ورسميا الحكومة تواصل إدانة القبلية، ولا تظهر نية لإقصائها في المستقبل القريب، وسيدفعنا ذلك إلى اتجاه تأسيس التنظيمات القبلية الجزئية. 

 

القلم: هل أنتم جزء من خلية الباحثين "الموريتانيست"؟ 

مارييلا فياسانتي سيرفيو: في باريس، لا أعمل مع أحد، أعمل في مخبر في ايكس أن بروفنس، يدعى معهد الدراسات حول العالم العربي والإسلامي في مجال الأنتروبولوجيا وحيث يوجد هناك العديد من الباحثين في شؤون الطوارق. 

 

القلم: ما هي مشاريعكم؟

مارييلا فياسانتي سيرفيو: لقد انتهينا من عمل جماعي سيتم نشره قريباً عن المجموعات العرقية في الصحراء، وهي غير معروفة بشكل جيد في موريتانيا. وقد أنجزت العمل مع باحثين شباب، أغلبهم أمريكيون وليسوا فرنسيين، وهم الجيل الجديد من الباحثين "الموريتانيست". وقد تطرق البحث إلى النماذج الموجودة عند "الولوف" و"الطوارق" ولم نشأ أن نركز على المشكل في موريتانيا، لأنه يُعتبر دائماً نموذجاً للعبودية الحديثة ونحاول إظهار الفروق الكبيرة بين ذلك.
ونحضر أيضاَ كتاباً جماعيا يتناول مشكلة الاستعمار في الصحراء الغربية والتركة الحالية. ونعتقد حتى الآن أن الأبحاث حول موريتانيا كانت متأثرة بالدراسات الاستعمارية وثقافة "الكبلة" وما تغير هو الميوعة التي تسود مجتمع "البيظان" أكثر من الصرامة، وهذا التبلور معبر عنه في أعمالهم. وأنا أعمل على مشروعين منفصلين. أحدهما حول تشكل النظم السياسية في الشرق الموريتاني، ومن خلال هذا سأحاول إعادة البحث في قضية الإمارات وأود أيضاً أن أعمل على البيظان في الصحراء الغربية وشمال مالي، وإن أمكن سأشارك في بحث جماعي عن المرابطون. 

أجرى الحوار: محمد محمود ولد الطالب. 

المصدر: صحيفة القلم، العدد 232 بتاريخ 21 مارس 2003

 

جمعة, 26/02/2021 - 23:26