كواليس المفاوضات السرية بين موريتانيا والبوليساريو (6)

ما إن سقطت طائرة الوزير الأول أحمد ولد بوسيف في المحيط، واستتب الأمر لرئيس الوزراء الجديد ولد هيداله بعد إقصائه للعقيد المصطفى ولد محمد السالك وتشكيل حكومته يوم 3 يونيو، حتى تسارعت الأمور بشكل لافت سواء على المستوى الداخلي (هيداله يعلن خلال اجتماع لمجلس الوزراء أن البوليساريو حليف موضوعي لموريتانيا) أو على المستوى الخارجي حيث ستنطلق مفاوضات جديدة مع البوليساريو وتخرج إلى العلن شخصية مثيرة للاهتمام ظلت حتى ذلك الوقت تكتفي بالتواجد في الكواليس.

وبحسب ما يرويه الرئيس ولد هيدالة في مذكراته، فإن الاتصالات مع البوليساريو كانت تتم عبر وسيط هو أحمد باب مسكه الذي سبق وأقام سرا لعدة أيام في القصر الرئاسي بدعوة من الرئيس المصطفى ولد محمد السالك بعد أن كان قد دخل إلى البلاد التي غادرها نهاية الستينات من جهة سينلويس بالتنسيق مع وزير الخارجية شيخنا ولد محمد لقظف. وحين وصل هيدالة إلى السلطة جدد أحمد باب الاتصال به واتفقا على عقد اجتماع بين موريتانيا والبوليساريو على هامش مؤتمر منروفيا خلال شهر يوليو.

ورغم أن البوليساريو ستتحدى "حاكم نواكشوط" الجديد بتنفيذ هجومها الدموي على تشله يوم 12 يوليو، فإن ولد هيداله سيستجيب لضغوط من الرئيس المالي موسى اتراوري ويقبل في منروفيا استقبال البشير مصطفى السيد الذي كان –بحسب الرئيس هيدالة- "متشنجا خلال اللقاء وظل يضرب الطاولة ويقول سلموا لنا أرضنا، انهوا احتلالكم لأرضنا.."، ثم سيستجيب لضغوط جزائرية للقاء البشير مجددا في منروفيا ويتفق معه بطريقة "غامضة للغاية" على مواصلة المفاوضات في الجزائر، بحسب تعبير الدبلوماسي الفرنسي برتراند فيسار دفولولت (المعروف ب"ولد كيجه).

وفي منروفيا كان هناك أحمد باب مسكه كما أنه سيرافق الوفد الموريتاني المتوجه إلى الجزائر لعقد اتفاقية السلام. 

فحين سأل الصحفي بشير بن يحمد المقدم احمد سالم ولد سيدي خلال مقابلته المذكورة آنفا: "يبدو أن أحمد باب مسكه لعب دورا مهما في هذا الاتفاق"، أجابه قائلا: "كلما اعرفه أن أحمد باب كان مع هيداله في منروفيا. وفي يوم ذهابنا إلى الجزائر عبر فرنسا حاول الاتصال بي من دكار وكان موجودا بعد ذلك في باريس ولكنني لم ألتق به في فرنسا. وفي الجزائر فرض علينا البروتوكول الجزائري حضوره وكان في القاعة التي تم فيها التوقيع".

أي دور لعبه أحمد باب في اتفاقية الجزائر وهو الذي التحق بالبوليساريو منذ سنة 1974 وتركها بهدوء سنة 1978 بعد صدور كتابه "جبهة البوليساريو: روح شعب"؟ هل من باب الصدف أن يترك أحمد باب العمل مع البوليساريو في نفس الفترة التي يحصل فيها الانقلاب العسكري في موريتانيا وأي علاقة له بذلك الانقلاب؟ وهل كان هناك اتفاق مسبق بينه وبين الانقلابيين على لعب دور في موريتانيا في مرحلة ما بعد الانقلاب؟

 

من قبض ثمن الاستسلام؟

 

في يوم 23 أغسطس 1979، نقلت وكالة الأنباء المغربية عن صحيفة "الميثاق الوطني"، اتهاما ل"مسؤولين موريتانيين" بأنهم قبضوا مقابل اتفاقية الجزائر 170 مليون دولار من السلطات الليبية. ونسبت الصحيفة لمصادر دبلوماسية موثوقة أن المسؤولين المعنيين اشترطوا أن يسلم لهم المبلغ يدا بيد في شكل أوراق من فئة 1000 و 100 دولار وأن الليبيين تعهدوا بتقديم دعم للخزينة الموريتانية.

 

هل كانت الصحيفة المغربية تخلط بين ما جرى الحديث عنه حول الثمن المقبوض مقابل اتفاق طرابلس؟ أم أنه تم دفع ثمن آخر مقابل التوقيع على اتفاقية الجزائر التي ليست في النهاية سوى اتفاق طرابلس وقد أدخلت عليه تحويرات ضئيلة؟ أم أن الأمر يتعلق فقط بحملة تشويه كانت الصحافة المغربية قد بدأتها ضد موريتانيا بعد توقيعها لاتفاقية الجزائر؟

ما هو مؤكد أن حكام نواكشوط قد أصدروا بيانا –فور عودة ولد هيداله من منروفيا- يعربون فيه عن عدم وجود أطماع لديهم في الصحراء، وأن المقدم محمد محمود ولد الحسين، وزير الإعلام، صرح يوم 2 أغسطس 1979 (أي قبل توقيع الاتفاقية بثلاثة أيام) بأنه: "لو تمت استشارة الشعب الموريتاني، لما قبل أبدا تقديم كل هذه التضحيات من أجل قطعة من الرمال لم يسبق له أن طالب بها". كما أن اللجنة العسكرية صادقت على اتفاقية الجزائر كما هي ومع بندها السري بعد عودة المفاوضين بها وسط توزيع واسع لملتمس تأييد لها وقع عليه 400 إطار.

ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد بل أعلنت موريتانيا يوم 14 أغسطس استئناف العلاقات الدبلوماسية مع الجزائر قبل أن تنسحب في اليوم الموالي من تيرس الغربية تحت ذريعة العجز عن تنفيذ التعهدات المرتبطة بذلك الاقليمᵎ

هل يعني كل ذلك أن اتفاقية الجزائر كانت "مفاجأة غير سارة" لحكام نواكشوط، أم أنها طبخت على نار هادئة في أنفاق مظلمة لا يراد للنور أن يعرف إليها سبيلا حتى بعد مرور أكثر من أربعة  عقود عليها؟

أربعاء, 30/10/2019 - 10:06