فوضى السياسة وعبثيتها في البلد

السياسة أو الإيالة هي التصدي لشئون الجماعة البشرية بما يصلحها.
والسياسة في المفهوم الحديث تقوم على وحدات أو بنيات تسمى الأحزاب والحزب حسب تعريف جورج بيردو:' مجموعة من الأشخاص يؤمنون ببعض الأفكار السياسية ويعملون على تحقيقها وانتصارها، وذلك بجمع أكبر عدد من المواطنين حولها والسعي للوصول للسلطة أو على الأقل  التأثير على عمل الحكومة أو توجيهه'.

والحزب في بنيته يتكون من نشطاء ومنتسبين ومتعاطفين ومصوتين؛ لكنه يعتمد أساسا في عمله على النشطاء الفاعلين، فهم يشكلون النواة الحية في الحزب ولا يمكن الحصول على درجة ناشط أو إطار في حزب إلا بعد مسيرة عمل شاقة من التحمس والانتساب والميدان؛ هذا تقريبا في كل الأحزاب السياسية في الكون.

لكن هذا يختلف كثيرا عن ما نعيشه هنا في موريتانيا، فمثلا يمكن أن تمضي حياتك كلها ولم تشغلك السياسة ولا التحزب ولم تنضم لأي حزب أو تناضل فيه ثم بقدرة قادر إذا أنت ترأس حزبا أو في قيادته، وربما قد كان جدك من منتسبي حزب الشعب أو مناضليه، فيورثك هذا موقعا طلائعيا في حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، فقاعدة البيانات الحزبية لا تخضع للمراجعة والفحص والتحديث كما هو الحال في المعمورة، ولذا ليس من المستغرب أن تجد من لا رصيد انتخابي له وهو من قيادات الحزب ويتحكم في كل شاردة وواردة.

مما لا تجد له مبررا أن أشخاصا تعرفهم بذلوا مالهم الخاص وأنفقوه منثورا في سبيل حصول حزب الاتحاد على مناصب سياسية، والحزب لم يساعد بأوقية واحدة، لا يهتم بهذا ولا يعنيه، بل و يتنكر لهم، وليس طبعا في وارد أن يشكرهم ناهيك أن يكرمهم ويجازيهم على حسن عملهم!

*************

وهنا أود أن أشير أو أفرّق بين أمرين وهما الناشط السياسي الملتزم والناشط الغوغائي الانتهازي، فالأول له مبادئ وأخلاق وقناعة والثاني ثرثار مخادع وشديد الفحش والأذى حين تتقلب الأيام وتتغير الأحوال، أو بعبارة أستاذنا القدير أحمد مصطفى إياك وصولة الغوغائيين فإنهم أقرب إليك مما تتصور.

ولإعطاء أمثلة ميدانية يحضرني كمثال للصنف الأول أعضاء حزب رئيس الوزراء التايلندي السابق تاكسين شناوترا حين انقلب عليه الجيش في 2006.عمليا نجح المنقلبون في فرض سيطرتهم على الدوائر الحكومية وفي إرغام رئيس الوزراء على البقاء في المنفى، لكن فشلوا في تشتيت قوته الحزبية على الرغم من سعيهم لذلك وحلهم لحزبه. لكن أعضاء حزبه نجحوا في البقاء متماسكين وأنشأوا حزبا جديدا وبرئاسة شقيقته والتي لحد ذلك الحين لم تك ممنوعة من ممارسة فنجحت في الانتخابات الموالية، وأرغم الجيش على تسليم السلطة؛ لكنه ما لبث أن رجع إليها وأسقط شقيقة تاكسين بذرائع واهية؛ لكن الحزب مازال قويا ومازال له حضور شعبي ضخم، ولم يستطع الجيش رغم جبروته أن يخرجه من السياسة.

وكمثال للصنف الثاني من السياسيين الانتهازيين الذين لا خلاق لهم ولا مبادئ يحضرني قادة حزب الاتحاد حين تخلوا عن رئيسه السابق محمد ولد عبد العزيز بعد أشهر قليلة من مغادرته الحكم وكان هو من أسس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية. ربما يدفع البعض بالقول إن ولد عبد العزيز همّش السياسيين وكان يستغلهم من حين لآخر في مناسبات لحظية وعابرة من دون إشراك جدي وذا قيمة ، وربما  يتذرع آخرون أنهم كافئوه جزاء وفاقا لمعاملته لهم طوال عشريته المملة العبوسة.

السياسي القائد يختبر الناس وينتخبهم بالفحص والتحري والسؤال عن ماضيهم ومآثرهم، ثم ليس هذا فقط فمن كان ديدنه التزلف وطبيعته المراءاة، لن يتحول في ساعات قليلة إلى ناصح مشفق. فعلى السياسي القائد أن يفحص الناس وأن يعرف من يستعمل في خدمته، ولا ينخدع بالمظاهر الزائفة والأحوال الكاذبة، ثم إنك إن لم تشرك الساسة وبشكل مكثف وتفرد لهم أدورا في الحزب والحكومة والعمل الميداني لن يتأسفوا على رحيلك وربما كثيرون منهم يفرحون وبصفاقة ووقاحة لأي فراق مع من لم يكن لهم حظ من أيامه ونعمائه.

الناشط السياسي الملتزم أو بعبارة أخرى الكادر الحزبي المتقدم لا ينقلب على رئيسه أو قيادة حزبه لأن آخرين أسقطوها أو سعوا للإطاحة بها (ربما يذهب في طريق مختلف بسبب اختلاف فكري أو منهجي وله الحق في هذا، لكن أن يكون في جوقة  المنقلبين فهذا من الصعب أن يقوم به إطار سياسي ملتزم)، لكن الانتهازي أو محترف السياسة كما يقول هتلر يفعل ذلك ويفعل أشد منه في السوقية والأذى والجحود، والسياسي الفطن الكيس والخبير  يعرف التمييز بين هذا وذاك. ويطوع المشهد السياسي لما يخدمه في الحاضر والمستقبل.
*****************

هناك مصطلح يكثر استعماله في مجال الإعلام والصحافة وهو "تخليق المهنة الصحفية"، والسياسة نظرا لأهميتها وخطورتها فهي أحوج بكثير إلى تخليق وتمهين وحتى إلى مواثيق شرف وأن تؤسس الأحزاب على بنيات سياسية صلبة بعيدا عن الاسفاف والارتزاق والوصولية.

ثم هناك تحديان هامان يتهددان كل بناء حزبي وديمقراطي في موريتانيا وهما تدخلات كبار ضباط الجيش في السياسة وغض الطرف عنهم من القيادة السياسة حتى أن بعضهم يدعم بعض المواقع ولديهم مدونون يعلمون على تحسين صورتهم وإبقاء ذكرهم في الإعلام والرأي العام، وهو شيء يتعارض مع مسئولياتهم فالجيش والقوات المسلحة مؤسسة وطنية ويجب أن تكون مهنية وأن تقوم بدورها في حفظ الأمن والدفاع عن الحوزة الترابية ولا يجوز لها ولا يجب أن يسمح لها تحت أي ظرف بالانزلاق إلى حبال السياسة ومتاهاتها وهذا في كل دول العالم، حتى في الصين وكوريا الشمالية الجيش مؤسسة مهنية ولا يتدخل في السياسة البته.

والأمر الثاني غياب الثقافة الحزبية وهشاشة البناء الحزبي وهذا من الطبيعة البدوية للساكنة  والتى عاشوا في سهوب وتلال هذه الأرض قرونا وأحقابا من غير عقال ولا تنظيم ولا وحدة، في فضاء منفلت وسائب، يسوقون ماشيتهم في ترحال دائم، لا حدود له ولا نهاية له.

هذان التحديان الجاثمان واللذان يستويان في الخطر وفي قتل أي تجربة ديمقراطية حقة؛ وإن كنت أرى أن الثاني أشد خطورة من الأول. فحتى مع وجود إرادة من كبار الضباط بعدم التدخل في السياسة وتوجيهها فإن الضعف الحزبي والهشاشة والصراعات السخيفة داخل الحزب الواحد سوف تلقي بظلال من الشك على عدم قدرة البداة على تجسيد انتقال مدني ديمقراطي قابل للعيش والدوام.

سيد أحمد أعمر محّم (إعلامي وكاتب)

خميس, 01/04/2021 - 18:55