من تاريخ الكادحين (الحلقة 16)

تحية طيبة وسلاماً متابعى ما ارتسم فى الذاكرة فى حصتنا التالية يعرضُ أحدُ قادة الكادحين ومناضليهم احدى شهاداته حول ما جرى له ولرفاقه، الذين وهبوا نعيم شبابهم ،ضحوا  بأغلى ما يملكون دفاعاً عن من لا يملكون نقيراً ولا نصير لهم الا الله ، إنهم البؤساء المستضعفون فى الارض!
القصة بقلم الرفيق احمد سالم  المختار شداد شهرةً . ذاق الرجل مرّ العذاب  وإكراهات الاقصاء . لكنه ظل واقفاً شامخ الرأس مستمسكاً بمبادئه لا تأخذه لومة لائم فى الوقوف بثبات فى صف المظلومين ،انه صيحةٌ من صيحاتهم عصيةٌ على التكميم! لا يقبل ان يغمُر النسيان أخبار الكادحين لذا إِسْتَلَّ قلمه وألّف كتاباً عنوانه : "قبل أن يغمر النسيان" ، قد يتفق المرء او يختلفً مع ما ورد فيه من آراء لكنه يبقى فى ظني إضافة مقدرة ً الى استنطاقِ الاحداث المعاصرة فى هذا البلد.
حدث شداد فقال:

"كان مقامي في نواذيبو خاطفا. كنت أبحث عن العمل على استحياء. كنت على الخصوص منكبا على تنظيم الشباب العاطلين. ذات مرة تم توقيفي مع العشرة منهم. كنت أرأس اجتماعا عقدناه في غرفة عندما اقتحمت الشرطة مكاننا واقتادتنا إلى مفوضية الشرطة. عندما وصلنا المفوضية، قدمونا، الواحد تلو الآخر، للمفوض صار دمبه في مكتبه. واجهني هذا الأخير بالكثير من الليونة مع أنه كان قاسيا في التحقيق مع أصدقائي. كل الدلائل تشير إلى أنه كان يعتبرني زعيم المجموعة. وضعيتي كتلميذ سابق مطرود على إثر إضرابات زادت يقينه. كانت أسماء وهويات التلاميذ المطرودين قد تم توزيعها على كل مفوضيات الشرطة وفرق الدرك وعلى مسئولي المؤسسات مع تعليمات بأن لا يتم توظيف أي منهم. لقد قدمت لنا الإدارة المدرسية إفادات مختومة بمداد أحمر كإشارة لسد الطريق أمام توظيفنا. أخذت القرار بالبحث عن طريقة للفرار. داخل المفوضية، انتزعوا من كل واحد منا قطعة من ثيابه، كثيرا ما تكون الدراعة أو السروال. كنت ممن انتــُـزعت سراويلهم. أفرغوا جيوب كل منا من محتوياتها، وصادروا الساعات من كل من لديه ساعة كما هو شأني. سجلوا في المحضر كل ما أخذوا منا. لكي أخلق الثقة لدى عناصر الشرطة المسئولة عن مراقبتنا، عودتهم على المضي ذهابا وإيابا إلى دورة المياه الواقعة مباشرة بالقرب من المدخل. كان الشرطي سيدي ولد اياهي، المشهور في نواكشوط بالقمع، يمضي يومه في تصليح سيارته أمام باب المفوضية. شكل حضوره حجر عثرة أمام تنفيذ قراري بالفرار. أتونا بغداء جيد. لم أعد أتذكر من أين أتوا به. تقاسمنا الغداء مع عناصر الشرطة. ظل ولد اياهي قرب سيارته حتى الظهيرة. كان أفراد الشرطة ينتهزون فرصة يوم العمل المتقطع للاستراحة في منازلهم. وعاد إلى المفوضية مواطنون يبحثون عن حل لمشاكلهم. غيرت تكتيكي. كان علي أن أستفيد من الارتباك الذي تحدثه حركة الناس ذهابا وإيابا كي أختفي عن الأنظار، وهو ما فعلت. لقد خرجت بشكل اعتيادي جدا. وسارعت الخطى لألفّ من وراء مبنى المفوضية. واختفيت بين مجموعة من المنازل. دخلت وراء السكة الحديدية الواقعة على بعد امتار قليلة من حدود الصحراء الإسبانية. لا يمكن لأي شرطي موريتاني أن يغامر بالذهاب هناك. عندما حل الليل تسللت بين الأعرشة حتى وصلت عريش النامي. كنا نسمي عريشه "هوندات": ذلك الملجأ السري الوارد في قصص المقاومة الفيتنامية المنتشرة حينها.
أصبحت مدينة نواذيبو كلها في حالة تأهب منذ أن أعلنت الشرطة عن اختفائي. حصلت الشرطة على مساعدة من قريب زائف أعلن لهم أنني عبده وأنه يلتزم بمصاحبتهم حتى يتم اعتقالي. بحثتْ الشرطة في كل مكان خاصة في منزل ابن عمي، ألمين، بحي كانصادو.  بالمناسبة، فقد وبخ الأمين قريبي السيء على فعلته المشينة. هذا القريب أهدى الشرطة على النامي في شركة ساما. لكن النامي وجد قليلا من الوقت ليختفي قبل وصول الشرطة. غير أنه فقد وظيفته إلى الأبد. لقد وجدت النامي في ملجأ هوندات. أذكـّـر بأن قريبي السيئ فقد البصر لاحقا وأصبح أعمى كليا، وتحول إلى مشعوذ قادر، حسب هرائه، على معالجة كل الأمراض، باستثناء مرضه هو: أى فقدان البصر.
تمت محاصرة المدينة من كل جانب من طرف رجال الأمن. وُضع المطار والقطار تحت رقابة مشددة. تم توقيف الباصات وسيارات الأجرة وأخضعت لتفتيش دقيق. من أجل التسلل عبر منافذ الشباك، يجب انتظار أسبوع تحت حماية محمد ولد السالك الملقب باي بيخه. بمساعدة هذا الصديق المخلص الفكِه، استطعت، في زى عامل تفريغ، اعتلاء قطار المعادن حتى قرية شوم. ومن ثم وصلت نواكشوط دون صعوبة. حكمت محكمة نواذيبو علي أنا والنامي غيابيا بشهرين من السجن النافذ.. تم تخفيض هذا الحكم بالربع بمناسبة إحدى فعاليات عيد الاستقلال. والبقية تم إلغاؤها نهائيا بالعفو السياسي الصادر سنة 1975.
في سنة 1976، عندما كنت أسكن حي مدينه 3 مع أسرتي، ذكرتني أحداث صغيرة بحادثة مفوضية نواذيبو. كان مكان سكني يشكل محلا للقاء العديد من الشباب.  دون مبالغة، كنا نناقش حول الشاي ليلَ- نهار بلا انقطاع. يحدث تارة أن يغلبني النعاس وهـْـنا من الليل، فانصرف خفية للنوم بضع ساعات فى منزل صديقي محمد الأمين ولد هيين بحي مدينه جي. كنا نناقش الوضع السياسي أساسا. وتارة نناقش مواضيع أخرى. ذات مرة قمنا بعرض ساعاتنا اليدوية. رفع شاب مجهول، كان برفقة صديق، ساعده ليعرض ساعته القديمة  من نوع "سيكو 5". كانت حالتها ما تزال جيدة. تعرفت فورا على ساعتي المصادرة من قبل شرطة نواذيبو سنة 1972. طلبت منه أن يقول لي بصراحة كيف حصل على هذه الساعة. قال إن أخاه الأكبر، العامل في شرطة نواذيبو، هو من أهداه إياها. أخبرته بمغامرتي المُـرة في نواذيبو قبل أن أطـَـمْـئنه بأنني ما دمت أملكها فإنني أهديها له. تلك الساعة أعطانيها خالي دينا خلال إحدى زياراتي للسينغال. مرة أخرى، وجدتني وجها لوجه أمام رقيب الشرطة الذي كان مكلفا برقابتنا في نواذيبو. كان ذلك وسط شارع وفي وضح النهار بحي مدينه 3. يتعلق الأمر بمحمد سالم . نظر إلي باهتمام بالغ كما لو أنه فوجئ بوالده بعد موته قبل سنوات. بدوري، نظرت إليه دون أن أحول عنه البصر. غض بصره واختفى. كان ذلك بعد سنتين تقريبا من العفو الذي استفدنا منه."

سبت, 06/03/2021 - 00:18