الفرنسية في موريتانيا و العالم

تم مؤخرا تخليد “أسبوع اللغة الفرنسية و الفرانكوفونية“ في موريتانيا و عبر العالم و هي مناسبة للحديث بإيجاز عن تاريخ و واقع الفرنسية في بلدنا و في البلدان الأخرى الناطقة بها.  

 

لا شك أن اللغة الفرنسية لغة جميلة، فهي قبل أن تكون لغة المستعمر بالنسبة لنا، كانت لغة المدنية الحديثة بامتياز و لغة الأدب الراقي و الفكر و العلم، علاوة على أنها، إلى جانب الإنجليزية، لغة عمل في الأمم المتحدة.

 

فإليها ترجمت معاني القرآن الكريم منذ منتصف القرن السابع عشر و تحديدا سنة 1647، كما ترجمت إليها أمهات الأعمال الأدبية العربية كألف ليلة و ليلة منذ مطلع القرن الثامن عشر و في نهاية القرن التاسع عشر  نقلت إليها أهم المتون الفقهية في المذهب المالكي كمختصر الشيخ خليل و غيره من المتون.

 

و كما هو معلوم فإن النهضة العربية الحديثة بدأت بعد حملة نابليون على مصر سنة 1798. فرغم إخفاقها عسكريا تأثر المصريون بالعلماء و الباحثين الفرنسيين الذين قدموا مع القوات الغازية بقيادة نابليون بونابرت و تمخض عن هذا الاحتكاك ابتعاث الحاكم الجديد لمصر، محمد علي باشا، لمجموعة من الشباب المصريين إلى فرنسا سنة 1826، من أبرزهم رفاعة الطهطاوي و الذين عادوا إلى وطنهم سنة 1831 بعلوم حديثة في عدة مجالات بعد دراسة استمرت سنوات في المدارس و الجامعات الفرنسية كانت البداية الفعلية لنهضة العرب بعد سبات دام قرونا عديدة. يقول أمير الشعراء أحمد شوقي في رثاء الابن الأصغر لرفاعة الطهطاوي:

 

 يا ابن الذي أيقظت مصرَ معارفُهُ *** أبوك كان لأبناء البلاد أبـا

 

دخلت الفرنسية بلادنا مع الاستعمار الفعلي للبلد منذ مطلع 1903 و ذلك عن طريق المدارس التي أنشأها منذ قدومه. في البداية أنشأ مؤسسات تعليمية خاصة ببعض مناطق ضفة نهر السنغال المأهولة من قبل غير الناطقين بالعربية على غرار المدارس التي أنشأها من قبل في السنغال، أما في المناطق الناطقة بالعربية ( الحسانية) أو "تراب البيظان " فأنشأ ابتداء من نهاية 1913 مدارس مزدوجة تدرس موادها مناصفة بين العربية و الفرنسية و تستلهم برامجها من البرامج التعليمية في المدارس الموجودة في الجزائر  (médersas). استمر هذا النظام الثنائي حتى سنة 1947. منذ هذا التاريخ تم توحيد المنظومة التعليمية في مستعمرات فرنسا في الغرب الإفريقي لتصبح الفرنسية لغة التدريس الوحيدة، أما دراسة العربية كلغة فأصبحت اختيارية.

 

بعد الاستقلال بدأت سلسلة إصلاحات من قبل الأنظمة المتعاقبة هدفها إعادة الاعتبار للغة العربية و ترسيمها كلغة وطنية إلى جانب الفرنسية لأنها لغة أغلبية السكان و لغة التعلم و التعبد لكل الموريتانيين قبل مجيء الاستعمار، مع الطموح في أن تحل محل هذه الأخيرة بشكل تدريجي (إصلاحات 1967 ، 1973، 1979). إثر إقرار التعددية الديمقراطية، نص دستور 1991 على أن العربية هي اللغةً الوطنية الرسمية الوحيدة للبلد و أن اللغات الوطنية الأخرى هي البولارية و السوننكية و الوولفية، ثم جاء إصلاح 1999 ليوحد المنظومة التعليمية بعد أن قسمها إصلاح 1979 الانتقالي إلى شعبتين: عربية خاصة بالناطقين بالعربية و مزدوجة خاصة بغير الناطقين بالعربية. بعد الإصلاح المذكور أصبحت العربية تدرس بها المواد الأدبية في حين تدرس المواد العلمية بالفرنسية. أخيرا جاء إصلاح 2022 الجاري به العمل الآن لرد الاعتبار للمدرسة الجمهورية و لتعزيز دور اللغة العربية في مختلف مراحل التعليم و كذا استخدام اللغات الوطنية الأخرى في سياقات تربوية معينة، مبقيا على الفرنسية كلغة أجنبية أولى للمنظومة، مع إعطاء مزيد من الأهمية للإنجليزية و فتح المجال أمام إدخال تدريس لغات أجنبية أخرى إن اقتضت الضرورة ذلك.

  

رغم ذلك، لا تزال الفرنسية اللغة الثانية الأكثر استخداما في البلد بعد العربية، سواء في المنظومة التعليمية الوطنية أو في الإدارة و الإعلام و في المهن الحرة.

 

في بقية مناطق العالم، تعرف الفرنسية تراجعا ملحوظا في مستعمرات فرنسا السابقة في إفريقيا و آسيا التي استقلت في الخمسينيات و الستينيات من القرن العشرين و كذلك الحال بالنسبة لبلدان أخرى خضعت للاستعمار البلجيكي في القارة السمراء: جمهورية الكونغو الديمقراطية، رواندا، بوروندي، نتيجة عوامل متعددة، من بينها:

 

- سياسات بعض البلدان الهادفة إلى استعادة هويتها الثقافية التي استلبت في العهد الاستعماري، و بالأخص بلدان المغرب العربي التي كانت من ضمن تلك المستعمرات: تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا و بلدان الهند الصينية: فيتنام، كمبوديا، لاوس؛

 

- المنافسة اللغوية القوية من قبل اللغة الإنجليزية و لغات صاعدة أخرى مثل الاسبانية، الصينية ، الروسية، التركية، إلخ.؛

 

- ضعف اقتصاديات مستعمرات فرنسا السابقة مقارنة بنظيراتها التي خضعت للاستعمار الإنجليزي؛

 

- تراجع النفوذ الفرنسي عبر العالم نتيجة تضافر عوامل متشعبة عديدة داخلية و خارجية.

 

وفق تقرير صادر سنة 2018 عن مرصد اللغة الفرنسية، و هو إحدى الهيئات التابعة للمنظمة العالمية للفرانكوفونية، يبلغ عدد الناطقين بالفرنسية 321 مليونا، مما يجعلها تحتل المرتبة الخامسة عالميا. غير أن المتحدثين بلغة موليير باعتبارها اللغة الأم أقل من ثلث الرقم المذكور، و لا شك أن هذا المعطى، إن تم أخذه بعين الاعتبار، سيخفض بشكل معتبر الترتيب العالمي لها مقارنة بما أعلنه المرصد المنوه عنه أعلاه.

 

أخيرا، يجدر التنبيه إلى أن مصطلح الفرانكفونية مصطلح سياسي بالدرجة الأولى و ليس مفهوما علميا، فالناطقون بالفرنسية بالمعنى الحقيقي هم من لغتهم الأم اللغة الفرنسية. بهذا المعنى يكون الفرانكوفونيون هم غالبية سكان فرنسا و إمارة موناكو و منطقة والونيا ببلجيكا و نسبة معتبرة من سكان اللوكسمبورج و إقليم رومانديا بغرب سويسرا و منطقة كبيك بكندا. أما "الفرانكوفونيون" الأفارقة و الآسيويون فتصنيفهم العلمي أنهم مستخدمون جزئيا أو ظرفيا لهذه اللغة حسب وضعها القانوني و التنظيمي في كل بلد على حدة، ذلك أنه لا توجد مدينة أو قرية في إفريقيا أو في آسيا يتحدث سكانها اللغة الفرنسية كلغة أم.

 

نواكشوط ، 5 رمضان 1444هجرية /27 مارس 2023 

د. أحمد ولد المصطف

أستاذ باحث بجامعة نواكشوط

اثنين, 27/03/2023 - 15:15