16 مارس 1981: كنت شاهدا

"إن السبيل الوحيد لإنقاذ موريتانيا يمر حتما بعودة الجنود إلى ثكناتهم"!
تلك فقرة من البيان التأسيسي "للتحالف من أجل موريتانيا الديمقراطية" (AMD) الصادر في باريس سنة 1980م.
ردُّ السلطة الموريتانية الحاكمة يومها (نظام هيداله) كان إصدار أحكام سياسية وعسكرية متسرعة، بواسطة المحكمة العسكرية، بالإعدام على المقدم محمد ولد عبد القادر (كادير) ـ أحد المؤسسين للتحالف ـ وبالأشغال الشاقة المؤبدة على الرئيس السابق المختار ولد داداه وآخرين...!
كانت تلك بذور وممهدات وخلفيات غزوة الانقلاب العسكري الفاشل الذي هز البلاد وشغل العباد، ضحوة يوم الإثنين 16 مارس 1981.
الأحداث والوقائع أثبتت أن AMD ومكوناتها وغيرها من الأسماء والحركات السياسية الكثيرة المعارضة للنظام في الداخل والخارج، لم يكن لها دور يذكر في ذلك الحدث الدامي؛ بل كان ذلك "عملا" عسكريا من صميم الأعمال الانقلابية والمعارك المتعددة الأبعاد (السياسية والشخصية) بين ضباط المؤسسة العسكرية الموريتانية الغارقة في التنافس والتهارش على السلطة وخراجها!
ولكنه كان، مع ذلك، حدثا لا تعوزه المبررات السياسية، ولا تنقصه الدوافع الأخلاقية؛ لأنه من جهة له وجاهة وطنية، ومن جهة أخرى قام به ضابطان من أعرق وأنظف الضباط وأفضلهما سجلا، وأكثرهما غناء في تاريخ تلك المؤسسة العسكري المهني.

**
كنت قادما من مبنى الإذاعة الوطنية متوجها إلى مقر عملي في الوكالة الموريتانية للصحافة حين مرت أمامي سيارتا "لاندروفير" عسكريتان مكشوفتان في اتجاه المكاتب الرئاسية، عبر شارع الاستقلال، وعلى متنهما مجموعتان من العسكريين في زيهم الزاهي (تني كلير).
لم يكن في ذلك ما يلفت الانتباه على الإطلاق.
واصلت طريقي من أمام "فندق النواب" سابقا (بجانب مبنى الغرفة التجارية حاليا) إلى مبني "ومص" الأول (وهو الآن مخبزة بجانب مقر مؤسسة المدن القديمة غربي البنك المركزي الموريتاني).
في حدود الساعة الحادية عشر فاجأتنا ـ في الوكالة ـ أصوات المدافع الرشاشة في جهة الرئاسة، فانطلقت مع أشخاص آخرين لاستطلاع الأمر بحذر وحيرة، حتى بلغنا الزاوية الشمالية الغربية من مبنى البنك المركزي... حيث اصطدمنا ببعض الموظفين والموظفات "الفارين" من الرئاسة... كانوا في ذعر شديد لا يلوون على شيء!
علمنا منهم أن "قتالا شديدا يجري ودماء تراق هناك؛ فغشينا ذعرهم وفررنا ـ بدورنا ـ إلى مقر الوكالة... حيث ستتوارد الأخبار بعد ذلك! كما عرفها الجميع، بحقائقها (أحمد سالم وكادير) وإشاعاتها (غزو بري وجوي مغربي)...
كنا في الوكالة نعرف شيئا، لم يعلم به ـ حتى تلك الساعة ـ عموم الناس ولا حتى "الكوماندوز"، وهو أن الرئيس ولد هيدالة، قد غادر العاصمة قبل بزوغ الفجر بقليل مع وفد يضم ضباطا أجانب وصحفيين إلى الشمال (لتفنيد اتهامات المغرب بوجود قواعد لجبهة "بوليزاريو" في الأراضي الموريتانية).
بعد قليل تجاوبت مدافع أخرى مع لعلعة الرشاشات في الرئاسة. وكانت أصواتها قادمة من ناحية قيادة الجيش العامة...
بقية الأحداث معروفة؛ المسرح كان ثلاثة أماكن: الرئاسة (المكاتب)، التي كانت المبتدأ، حيث دار قتال مميت. وقيادة الجيش حيث جرى "الصراع" الحقيقي وقتال مميت أيضا، ثم مبنى الإذاعة، حيث جرى "الحسم" دون أي إطلاق للنار؛ بل بسبب انتظار "تحمية" الأثير التي يتطلبها استئناف بث الإذاعة عادة. ولم تكن هناك مناورة إذاعية كما أشيع!!

**
في 22 مارس طلبت وزارة الإعلام من الإذاعة والوكالة و"الشعب" الاستعداد لتغطية محاكمة قريبة للانقلابيين، الذين يصفهم ولد ابنيجارة، وقد ارتدى يومها زيا عسكريا لا يناسب لمَّته، بـ"الإرهابيين" و"الانتحاريين".
في صباح 23 مارس كلفتني الوكالة بتغطية الحدث؛ فتوجهت إلى الإذاعة، التي هي الأهم فعليا، لمرافقة فريقها. ومن هناك توجهنا إلى قيادة الدرك الوطني، حيث وجدنا بعض المحامين مع الرائد "صو صمبا" الذي سيكون من أركان "محكمة العدل الخاصة" العسكرية البارزين (الإدعاء).
كان لدينا أن المحاكمة ستكون في دار الشباب (القديمة)، ولكنهم أخبرونا الآن أننا سنتوجه إلى قاعدة "اجريدة" على البحر؛ الأمر الذي فاجأ زملائي من الإذاعة فتراجعوا إلا واحدا حمل "النـﮔره" (المسجل) وبقي معنا.
أركبونا ضحى في إحدى سيارتي "الكوماندوز" نفسها، وفي الأخرى أمامنا باقي المحامين... فانطلقتا لأخذ طريق وعر من وراء المستشفى الوطني... إلى قاعدة "اجريدة"... حيث كانت إجراءات الأمن العسكرية شديدة، بل مخيفة؛ فقد انتشر الجيش في ثلاثة أو أربعة أطواق مستنفرة حول القاعدة.
عند الوصول للحامية أخذونا إلى منزل ملحق بمكتب آمر القاعدة، حيث طلبوا منا ترك كل آلات التصوير والتسجيل... والأوراق والأقلام!! فكان ذلك، صدمة لي، على الأقل بسبب ضعف ذاكرتي! وقد علمت أنه لم يكن هناك اتفاق على حضور الصحافة أصلا.

**
عند الخروج إلى مبنى المحكمة، وهو مجرد مبنى إداري صغير من مباني الحامية العسكرية، كانت مظاهر التوتر بارزة عامة: جنود متحفزون أصابعهم على الزناد، وعربات مدافع قد اتخذت أماكنها في حُفَر محيطة، ومواكبة عسكرية صامتة...
كانت هناك أربع سيارات "لاندرفير" محكمة التغطية (باشي) تقف مواجهة للمبنى، الذي دخلناه قبل أن يدخل رئيس المحكمة: المقدم الشيخ ولد بيده(رحمه الله) وأعضاؤها (أذكر منهم: النقيب محمد ولد ابيليل والملازم أحمد ولد امبارك).
كان عدد ونوع الدفاع ملفتا للنظر: حوالي عشرة من أشهر وأكبر المحامين يومها (أتذكر منهم: يعقوب جالو، محمد شين ولد محمادو، أحمد ولد الشيخ سيديا، حمدي ولد المحجوب...).
بدأت إجراءات المحكمة الشكلية، وفي بدايتها طالب المحامون بتحسين ظروف المتهمين ومنحهم حرية الحديث معهم...
كان أول المستجوبين العقيد محمد ولد ابَّ ولد عبد القادر المعروف بلقبه المحبب: "كادير".
هذا الضابط السامي المولود 1941م في النعمة، هو أحد خيرة ضباط البلاد ومؤسس قواتها الجوية، وهو مشهور بالشجاعة والكفاءة؛ لعب أدوارا بطولية ـ بل خارقة ـ في حرب الصحراء والدفاع عن حوزة البلاد وحمايتها، رغم تواضع الوسائل الجوية المتوفرة له.
كان المثول الثاني أمام المحكمة للمقدم أحمد سالم ولد سيدي، وقد وجهت إليه نفس الأسئلة والاتهامات (حمل السلاح ضد الوطن والقتل والتآمر مع الأجنبي...).
المقدم أحمد سالم، ابن الإمارة التروزية العريقة، ولد سنة 1939م في المذرذره، هو أحد ضباط الجيش البارزين؛ اشتهر بالشجاعة والثبات في ساحة المعارك، وكانت له أدوار عسكرية وسياسية أهلته ليكون الموقع على اتفاق السلام الحاسم مع جبهة "بوليزاريو" عن موريتانيا، في الجزائر (1979).
وفي حوالي الساعة الثانية والنصف علقت الجلسة وعدنا لمنزل آمر الحامية في استراحة قصيرة للغداء.
وبعد ساعة عدنا إلى المحكمة حيث لاحظنا بعض التغيرات... فقد وجدنا أن أغطية السيارات (الباش) الخلفية قد كشفت ليصل نسيم البحر العليل إلى الراكبين، الذين هم أعضاء "الكوماندوز" المقبوض عليهم، باستثناء الملازم محمد دودو سك الذي كان طريح الفراش بالمستشفى الوطني بسبب جروح بالغة أصيب بها في اشتباك الرئاسة.
كانت المجموعة موزعة على السيارات الأربع: المقدم أحمد سالم ولد سيدي في السيارة الشمالية، وبجانبها أخرى جلس فيها المقدم كادير وعلى السيارتين الأخريين توزع الباقون.
ولأول مرة سمح لنا، مع المحامين بالسلام والحديث مع أفراد المجموعة...
كان الجميع يرتدون ثياب العمال العسكريين (قميصا وسراويل قصيرا) ذات اللون الأزرق الداكن. وكانوا جميعا مقيدي الرجلين و اليدين (من الأمام).
وكان الاستجواب مختصرا في هذا اليوم، وشمل بعد ذلك الملازم انيانغ مصطفى
وهو ضابط لامع في الجيش الوطني.
كان اليوم الثاني للمحاكمة استجوابات مفصلة، قص فيها المقدم كادير والمقدم أحمد سالم ولد سيدي دوافع وتفاصيل عملهما ومراحله الأخيرة حسب أسئلة المحكمة، وقد ساقا بجلاء وثبات ودقة مبررات ما قاما به، ناثرين بذلك نقدا لاذعا للأوضاع السياسية، ولسياسات زملائهما في اللجنة العسكرية. وقد شدد المقدم كادير خاصة على شكوكه في مصير المقدم أحمد ولد بوسيف واقتناعه بعدم كفاءة وكفاية التحقيقات التي جرت بشأن حادث تحطم طائرته المأساوي.
واتفق الرجلان، وتابعهما الملازم انيانغ ـ كل على حدة ـ على الأسف للدماء التي سالت، مؤكدين أنهم تفادوا ذلك ما استطاعوا وأن أي إطلاق نار كان من طرف المجموعة إنما كان دفاعا عن النفس. وكان هدفهما غير قتالي ومحددا بدقة، وهو مباغتة رئيس وأعضاء اللجنة العسكرية عند اجتماعهم العادي (الاحتمال A)، أو اعتقال واحتجاز رئيس اللجنة العسكرية (ولد هيداله) ورئيس الوزراء (ولد ابنيجاره) والتفاوض مع الباقين بشأن التخلي عن السلطة (الاحتمال B).
ثم دافعا بقوة وثبات عن أفراد "الكوماندوز"، وقال كل واحد منهما إنه يتحمل مسئولية التخطيط والتنفيذ، وإنهما وحدهما المسئولان عن كل ما وقع، وإن باقي أفراد المجموعة، بدون استثناء، لا يتحملون أدنى قدر من المسئولية، وبالتالي يطالبان بإخلاء سبيلهم.
والواقع أن ذلك كان موقفا نبيلا وتضحية إنسانية وشعورا عظيما بالمسئولية، لا أظن إلا أن من استمع إليه من الضباط الحاضرين؛ بمن فيهم أعضاء المحكمة، قد تأثروا به وقدروه ولو في أنفسهم!
في اليوم الثاني بدا لي كأن المتهمين والمحكمة والمحامين وضباط وحراس قاعدة اجريده... بدأوا "يتآلفون"، ويشعرون، في تلك "العزلة العسكرية" والاستماع إلى سرد الأحداث وسوق المبررات في كافة مراحل وأشخاص الاستجواب... بأنهم اصبحوا "عائلة واحدة"!.
لقد أدت لقاءات المحامين بالمتهمين ولقاء بعضهم ببعض في السيارات أمام المحكمة، إلى خلق جو جديد أقل توترا وكآبة.
ولكن منظر أولئك الضباط المتميزين في تاريخ الجندية الموريتانية، وهم يرسفون في القيود والأصفاد، كان مؤلما حقا.
كانوا يدخنون بشراهة، ويبتسمون لمخاطبيهم خارج القاعة، ويصمتون في عزلتهم داخل السيارات، ويردون بطلاقة وتمعن على أسئلة المحكمة.
وقد قَدَّرتُ أن شعورهم كان خليطا من الأسى (على الفشل) والانضباط الذي قد يشبه الاستسلام... والكبرياء!
إن من يحاكمونهم، ومن هم وراء من يحاكمونهم، ليسوا إلا ضباطا من زملائهم يعلمون، كما يعلمون، أنهم كانوا أقل منهم شأنا في السلك والميدان العسكريين؛ وكان الطرفان ـ المتهَمون والمتهِمون ـ يحاولان ما وسعهم الجهد إبعاد ذلك الشعور وتجاهل سلطانه!
كانت الجلسات طويلة ومرهقة تستمر من الضحى إلى قرب منتصف الليل.
والاستجوابات كانت في معظمها سردا "مملا" أحيانا لوقائع الإعداد ومراحل الرحلة وتنفيذ العملية، مع تركيز على بعض الجوانب السياسية المتعلقة بدور المغرب ومدى تحكمه ومستوى توجيهه لهذه الحركة.
وتميز استجواب الضابط انيانغ مصطفى خاصة بقدر من الطرافة بسبب ما يبديه أحيانا من التعليقات المرحة والمتهكمة. فقد رد مرة على جملة أسئلة واتهامات من المحكمة قائلا: "أنتم أيها السادة، توهموني بأني شخص آخر. إنكم تتصورون لي أدوارا وأهمية فوق طموحي كله"!
عرف هذا الملازم ـ انيانغ ـ بقربه وعلاقته الخاصة بالمرحوم المقدم أحمد ولد بوسيف، الذي لم يخف إعجابه به وتأثره البالغ باختفائه، والذي كان من أهم أسباب التحاقه بالمجموعة.
أما الملازم دودو سك الجريح، فقد أعلنت المحكمة أنها أوفدت اثنين من أعضائها لاستجوابه في المستشفى حيث أثخنته الجراح.
في اليوم الثالث بدأ المحامون خطة دفاع محكمة ومنسقة ركزت على قائد العملية (كادير) ومساعده (ولد سيدي).
كانت مرافعات المحامين في غاية الروعة والتركيز على الأدوار العسكرية المهنية المعروفة لهذين الضابطين اللامعين، وعلى الأبعاد الاجتماعية والإنسانية لشخصيهما وأسرتيهما... حتى قال أحدهم (يعقوب جلو) إن المقدم كادير يحمل آخر "جينات" قبيلة معينة كبيرة لها تاريخ مشهود في النواحي الشرقية لم يبق منها غيره، وبالتالي فقتله إبادة جماعية!
وقد استمرت المرافعات طوال ذلك اليوم، وكانت بارعة حتى ليخيل إلى الحاضرين أن الحكم سيقترب من البراءة!! الأمر الذي زاد بشكل ملحوظ من التفاؤل وارتفاع المعنويات وأيقظ مشاعر الأمل والرجاء بين الجميع.
إلا أن المحكمة كان لها رأي آخر، أو يملى عليها، حيث أصدرت في نهاية تلك المرافعات، وبعد مداولات قصيرة أحكامها المعروفة.
مع ذلك لم يغير النطق بالحكم شيئا من مزاج ولا تصرف المتهمين حين تُلي عليهم؛ فقد استقبلوه وكأنهم يتوقعونه، أولا يرونه حاسما، أو لا يبالون به...
ولإبقاء الأمل حيا قررت هيئة الدفاع التماس العفو الرئاسي، وأقنعت المحكومين بالموافقة على ذلك. فقد كانت محكمة العدل الخاصة محكمة استثنائية (عسكرية) أحكامها نهائية لا استئناف لها.
هل سيصدر العفو الرئاسي ومتى، وكيف ومتى سينفذ الحكم إذا نفذ؟
للإجابة على هذه الأسئلة ضُرِب لنا موعد غدا صباحا في منزل الرائد صو صمبا بقيادة الدرك الوطني.
وفي ذلك الصباح هناك انتظرنا نتائج الرد الرئاسي على التماس العفو الذي تقدم به المحامون. ولم يلبث أن جاء الرد سلبيا؛ مما كان صدمة وخيبة للمحامين ولي شخصيا.
وقد علمنا أن اللجنة العسكرية للخلاص الوطني قد أجرت تصويتا على تنفيذ الإعدام (رفض الإلتماس) نال الأغلبية؛ وقيل إن ذلك كان حيلة من الرئيس ولد هيداله للتخلص من حرج الموقف ومسئولية هذا الأمر الجلل.
 

ثلاثاء, 17/03/2020 - 19:26