المعارضةٌ الراديكاليةُ وعامُ الصًمت المُحير..

بعد  إعلان نتائج أول انتخابات رئاسية بالبلد في يناير  عام 1992 احتجت المعارضة وقتها بقوة على نتائج تلك الانتخابات واستمرت المظاهرات لساعات وحدثت صدامات عنيفة مع الشرطة ..وبعد تضييق الخناق عليها لجأت للكتابة على الحيطان. ولم تتخل عن  مهرجانات أسبوعية أوشهرية لنقد سياسات النظام ..

بعد انقلاب 2005 ظهرت المعارضة الراديكالية بقوتها المعتادة رافضة أخذ السلطة بقوة الانقلابات ؛ وبدأت بعض الوجوه المحسوية عليها مفاوضات تحت الطاولة مع النظام؛ لكنها ظلت متماسكة؛ رغم بوادر الخلاف فيها ؛ ثم جاء انقلاب 2008 ليعيد لها قوتها من جديد ؛ التي تجسدت في وحدة الكلمة ضد خيار الجنرالات..انتصرت المعارضة وقتها حين فرضت عليهم تأجيل الانتخابات عن تاريخها المحدد المعروف بستة ستة 2009؛ وشكل اتفاق داكار في العام ذاته  واحدا من أهم  انتصاراتها التاريخية؛ فقد  كان بإمكانه أن يكون بداية جديدة للتداول السلمي للسلطة في البلد لو لا أن عزيزا انقلب على بنوده ...

 ومع الانقلاب  على بنود اتفاق داكار دخلت المعارضة الراديكالية منعرجا جديدا من الهشاشة له أسبابه الموضوعية التي من أهمها انعدام الثقة بين مكونات الطيف السياسي؛ وشعور البعض بحاجته لنوع من البارغماتية التي تدفعه لمهادنة النظام سبيلا للاستفادة من ريع التعيينات والمشاريع العملاقة التي تغري موازنتها كل الباحثين عن الغنى السريع؛ بعد أعوام من العيش على الهامش.

رغم ضعف المنتدى الوطني  للديمقراطي والوحدة  الذي كان ينتخب رئيسا دورياله من مختلف الأحزاب المعارضة؛ فإنه استطاع أن يحافظ على المهرجانات الشهرية والمسيرات التي كانت تشكل مصدر إزعاج حقيقي لنظام ولد عبد العزيز؛ خصوصا وأن المعارضة في هذا الوقت ضمت رجال دولة من العيار الثقيل مثل المرحوم اعلي ولد محمد فال الذي شكلت وفاته نهاية فعلية لنشاط ما يسمى بالمعارضة الراديكالية.

ثمة عوامل أخرى ساهمت بدورها في  القضاء على نشاط المعارضة؛ منها سياسات الإغراء التي سلكها نظام عزيز؛  فضلا عن إستراتيجية تجفيف منابعها المالية؛ كلها عوامل اجتمعت لتنهك نشاطا عمره ثلاثة عقود من الزمن .

كان على المعارضة بحكم الواقع أن تنتج آليات جديدة تمكنها من التصدي لأساليب عزيز المزعجة في كل مراحلها؛ لذلك لم تجد غضاضة في استخدام العاطفة الدينية مركزة على  وسائل التواصل الاجتماعي لتعبئة الجماهير للخروج في تظاهرات تربك كل إستراتيجيات النظام للقضاء عليها؛ لكن عزيزا استطاع انتزاع تلك الورقة بقوة؛ حين ألب بيرام على حرق الكتب في إبريل عام 2012؛  ليخرج في ثوب المنقذ لدين لله؛ وحين حاولت المعارضة استغلال إساءة ولد امخيطير لخير البرية ؛ كان النظام قد سبقها لذلك..

ظلت المعارضة حتى نهاية نظام عزيز تركز على استغلال ثنائيتين هما : العاطفة الدينية و الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لتجييش الشارع ضد النظام؛ ومع ذلك كانت معظم محاولاتها لاترقى لجهودها قبل اتفاق داكار..

 

معارضة تحتضر:

يرى المراقبون للشأن الموريتاني أن المعارضة الراديكالية كانت تحتضر منذ سنوات وأن نظام غزواني أطلق رصاصة الرحمة عليها استجابة لمطالب كان يفرضها واقعها الداخلي... وبسرعة الضوء اختفت كل الوجوه التي ألفناها منذ عقود؛ تماما كما اختفت المسيرات والمهرجانات الأسبوعية المنددة بسياسيات النظام؛ ودخلت القصر الرمادي شخصيات كانت محسوبة على أقصى اليسار وأخرى توصف بأنها ضمن الجناح اليميني للمعارضة الراديكالية.

في العام ونصف الذي مر على حكم ولد الشيخ الغزواني لموريتانيا  حدث الكثير من الخروقات التي كانت تتطلب مسيرات منددة وخطابات منتقدة ؛ لكن شيئا من ذلك لم يحدث؛ فأحداث مكب تفيريت زادت المعارضة صمتا بكل أنواعها وأشكالها؛ وحتى تصرفات السلطة تجاه المواطنين الضعفاء في زمن كورونا لم يزد المعارضة إلا صمتا..

اليوم يجرى الحديث عن التحضير لتطبيع مع إسرائيل التي كان التطبيع معها واحدا من أساليب التحريض الناجعة في الأدبيات التاريخية للمعارضة ؛ كل هذا لم يزد معارضتنا إلا تمسكا بصمتها المحير. 

الغريب في الأمر أن تيار الإخوان الذي أزعج الناس بالحديث عن إسرائيل وعداوتها وتسبب في إعاقات مزمنة لبعض الشباب المتحمسين؛ يتحدث قادته اليوم عن اللقاءات المثمرة مع فخامة رئيس الجمهورية؛ وكأن كل المشاكل العالقة التي يزيد عمرها عن أربعة عقود  لا تتطلب حلولها سوى لقاء مثمر مع فخامته؛ أما المواطن العادي فعليه انتظار عقد من الزمن ليكتشف أن ثمار ذلك اللقاء هي تحميل النظام السابق كل البلاوي التي لحقت بالبلاد والعباد خلال كل عشرية سابقة...

سنة إذن من الصمت المحير مرت دون أن نعرف هل مازالت هناك معارضة يمكن وصفها بالراديكالية؟ ...أم أن الرأي القائل بنهايتها كان أقرب إلى الحقيقة.؟..

في كل الأحوال فإن صمت المعارضة السياسية يعني فتح المجال أمام حراك شعبي يفتقد للانضباط وستكون السلطة هي أول من يدقع الثمن بحكم ابتلاعها لما تبقى من مصداقية معارضتنا؛ التي دخلت موتا سريريا؛ يحتم على أصحاب القرار خلق معارضة ولوشكلية كي لاتلجأ عامة الشعب للقوة سعيا لملإ الفراغ الذي سببه  صمت المعارضة  المحير  والذي مضى عليه قرابة  عام ونصف...

د. أمم ولد عبد الله

ثلاثاء, 29/12/2020 - 22:06