الاحتجاجاتٌ من العاطفية إلى التًسييس..

كانت الاحتجاجات خلال القرنين 15و16 مصنفةً على أنها مجرد سلوك عنيف تقوم به مجموعة من الغوغاء الخارجين على القانون؛ لكنها مع الوقت تحولت لأسلوب حضاري في الغرب تمارسه الشعوب المتحضرة  للمطالبة بحقوقها؛ لذلك أصبح لزاما على المهتمين بعلم النفس الجماعي وبالأمن القومي دراسة السلوك الاحتجاجي بمنهج علمي يسعى لفهم دوافعه وأساليبه وتأثيراته على سلوك الفرد والجماعة؛ ويُعد كتاب:

Psychologie des foules 

لمؤلفه  Gustave Le Bon  واحدا من أهم الكتب التي أُلفت في هذا المجال; وإن كان المفكر النمساوي فرويد قد بلور نظريات أخرى من خلال كتاب  يحمل العنوان ذاته :

The Crowd psychology ./ Psychology of masse, 

قإن مقاربتهما في التحليل قد اختلفت في التسميات فقط ؛ ففي الوقت الذي استخدم لوبون مصطلح اللاشعور باعتباره أساس موروث الفرد ؛ اعتبر فرويد أن هناك ماسماه بالأنا والأنا الأعلى؛ الذي يعد بحسبه عنصرا حاسما في سلوك الفرد والجماهير  ...

ومع تزايد وتيرة الاحتجاجات في العالم العربي  وبعد فشل معظم  المقاربات الأمنية في احتوائها عام ٢٠١١ اتجهت بعض  مراكز الدراسات الإستراتيجية للاهتمام بالظاهرة الاحتجاجية التي تعتبر مصدر ازعاج للسلطات الأمنية على وجه التحديد؛ خصوصا وأنها تعتمد أساليب في التحريض غير قابلة للرقابة بفضل وسائل التواصل الاجتماعي .

فقد كان المخبرون يتتبعون من عين المكان تصرفات المحتجين سواء من خلال اللافتات التي يحملونها أو الهتافات التي يرددونها؛ ويرصدون بالعين المجردة مدى تأثيرهم على المارة؛ بمعنى أن ضعف وسائل ماقبل الثورة الرقمية ساعد على تتبع الأفراد الفاعلين في العمل الاحتجاجي بشكل عام وبسهولة .

وفي موريتانيا أخذت الاحتجاجات منحنى عاطفيا تحركه نزعة قومية أوعرقية وحتى قبلية في الكثيرمن الأحيان؛ فقد حملت احتجاجات 1966 طابعا عرقيا تدفعه عاطفة زنجة ..والأمرذاته ينطبق على احتجاجات الكادحين عام 1969 التي لم تكن لها رؤية واضحة؛ بقدر ما كانت تدفعها العاطفة للانجراف في تيار عالمي تختلف كل الأسس القائم عليها عن أولويات المجتمعات الرعوية، وضمن الاحتجاجات العاطفية يمكننا أيضا تصنيف مظاهرات 1991 نصرة للعراق ؛ و لرئيسه  الراحل صدام حسين بعد دعمه لموريتانيا في أحداث 1989 مع السنغال؛ ليس إدراكا للأخطار التي تمثلها حرب الخليج الثانية على المنطقة؛ وإنما تطبيقا للحمية العصبية في نسختها العاطفية على الطريقة الخلدونية. 

صحيح أن معظم الاحتجاجات غالبا ماتكون إنعكاسا لوضع سياسي واقتصادي معين أنتجته السلطة القائمة أو فرضته سياسات القوى الكبرى على بلد بعينه؛ لكن موريتانيا تميزت بخصوصيتها المعقدة؛ بحكم أن ماحدث فيها لم يمله  وعي داخلي؛ بقدر ماكان مجرد محاكاة لواقع شعوب أخرى تختلف أسسها الثقافية عن كل الأسس الفاعلة في مجتمع الرحل .

المتتبع لتاريخ الاحتجاجات في البلد يدرك أنها شهدت تحولا جذريا في دوافعها  وأهدافها؛ الأمر الذي انعكس على أساليبها وعلى اختيارها لأماكنها؛ فبعد أحداث الخبز الشهيرة في سنة 1995 صار شارع جمال عبد الناصر المكان المفضل لكل الاحتجاجات التي أصبح تنظيمها تتحكم فيه ردة فعل مبنية على  على حاجيات مجتمع؛ أكثر من أي شيء أخر .

إن تركيز الاحتجاجات في المدن الكبرى هو في الحقيقة انعكاس لنمط من الوعي أملته ظروف اقتصادية وأخرى لها علاقة بالواقع الاجتماعي في البلد. فقد امتازت المظاهرات بعد تسعينيات القرن الماضي بطابعها السياسي؛ وإن كان  هذا التسييس يحمل هموم مجتمع وربما شرائح عريضة منه كانت تعاني  من ظلم تاريخي دفعها الوعي بواقعها للاحتجاج بأساليب لاتخلو من تتظيم يعكس وعيا معينا بمسؤولية الفرد اتجاه مجتمعه.

لاشك أن التغييرات السياسية في البلد؛ بغض النظر عن شرعيتها؛ انعكست على طبيعة  الاحتجاجات؛ ففي عهد الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز مثلا تركزت كل الاحتجاجات في محيط القصر الرئاسي؛ ولم يعد الاحتجاج مختصرا على ساكنة نواكشوط؛ بل نظمت عدة مظاهرات لسكان القرى وللمدن في الداخل أمام القصر الرمادي للمطالبة بحلول لمشاكل المياه في مناطق مختلفة من الوطن.

كما شكلت الزيارات الرئاسية لعواصم الولايات فرصة لنوع من الاحتجاج من خلال حمل أواني البلاستيك في وجه الوفد الرئاسي كتبعير احتجاجي عن أزمة العطش التي تهدد مدنا كبرى في جهات مختلفة من موريتانيا.

هذا التسيس الواضح للاحتجاجات سيصبح السمة البارزة لها بعد 2005؛ حيث ستلجأ معظم المحتجين لساحة الاستقلال في محاولة منهم للفت انتباه أصحاب القرار بحثا عن وسيلة للتفاوض؛ وكهذا فرًغ التسييسُ  الاحتجاجات في البلد من محتواها الحقوقي الذي يحمل هموم الوطن وحوًلها إلى مجرد وسيلة للبحث عن امتيازات لمجموعة ضيقة وربما لأفراد دفعت بهم ظروف معينة لتصدر المشهد.

ليس من الغريب إذن في ظل تسييس الاحتجاجات أن نشهد مظاهرات عديدة في  مكان  واحد لها شعارات مختلفة؛ لكن القاسم المشرك بينها هو غياب القضايا الحقيقية التي تمس الصالح العام.

والواقع أن ظاهرة تسييس الاحتجاجات أرهقت القوى الأمنية وأحرجتها في الكثير من الأحيان؛ خصوصا بعد توثيق استخدامها المتكررللعنف المفرط؛  كما أربكت تعامل الدولة مع المطالب التي اعتمدت معها سياسة "تسكات" اثبتت فشلها في استيعاب موجات لاتنتهي من الاحتجاج المُسيًس.

هذا الواقع المنهك في كل تفاصيله خلق فجوةً كبيرة  وأزمة ثقة أكبر  بين الشباب وأصحاب القرار  وبعض قادة الرأي من حهة. وبين قادة الأحزاب ومناضليها وكذا رؤساء النقابات وأعضائها؛ من جهة أخرى؛  الأمر الذي ينذر بتحول جذري في مسار الاحتجاجات في البلد وبطريقة تدفعه للخروج عن السيطرة.  

د. أمم ولد عبدالله

 

أحد, 03/01/2021 - 21:55