من يدقق في الثقافة في بلاد شنقيط يجدها محكومة بنظام دقيق داخل أسر تميزت بالعلم، والاشتغال به، وهي خصوصية لا نشهدها إلا في هذا البلد القصي من بلاد العرب، ففي مدن هذه البلاد نلتقي بمجموعة كبيرة من الوالد والولد، وابن البنت، يشتغلون بلون معين من ألوان الثقافة، يجمعهم الشوق إليه والحذق بمضامينه، فعلى سبيل العرض الأول نجد أسرة آل انبوج في مدينة تيشيت، وأسرة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في مدينة تجكج، وأسرة أهل حبت، وآل حامن في مدينة شنقيط، وأسرة أهل الحاج احمى الله، وأسرة آل العاقل، وأسرة أهل أحمدوفال، ولا نقصد الحصر، وإنما نرمى إلى لفت نظر الباحث إلى هذا اللون من البحث قصد تعميقه، وتجلية مجاهيله، وعرضه للباحث غير المتخصص.
وفي هذه العجالة التي نقدمها سنعرض إلى أسرة آل انبوج التيشيتيين، فقد استوطنت هذه الأسرة المدينة، ودرست بها، وأنتجت علماء كبارا تميزوا في ألوان عدة من الثقافة، فقها وشعرا، وتاريخا، وتصوفا.
فمحمدو بن أحمد الصغير بن انبوج كان قاضيا ملأت شهرته فجاج مدينة تيشيت، وأحكامه المتميزة تعج بها مكتباتها الفريدة وبخطه الرائع الذي امتازت به الأسرة بكاملها، ولا يمكن لمن أراد أن يدرس تاريخ القضاء في بلاد شنقيط أن يتجاوز تلك القامة السامة فيه. وهو مع ذلك أديب، ولا نحتاج إلى النظر بعيدا إذ أن ديوانه المعروف بضالة الأديب أنموذج لذلك. ففي هذا الديوان من الشعر والرسائل النثرية ما يشهد له بأدبه وفكره الرائع، ومذهبه التصوفي.
ولا يبعد ابنه عبيدة عن تخصص والده، فلذلك الفحل الصوفي كتب في الصوفية مثل ميزاب الرحمة، نالت استحسان علماء الصوفية في ذلك الزمان، فعد بذلك من أقطاب الصوفية التيجانية في بلاد شنقيط، أما الشعر فله نصيب منه وقفت على نماذج منها وخاصة في مدح أمير المومنين أحمد الكبير المدني ووالده الشيخ عمر.
أما فحل هذه الأسرة بلا منازع فهو سيدي عبد الله، وهو مؤلف كبير أحصيت مؤلفاته في تحقيقي لعمل عن ترجمة العلامة ابن بون زادت على الأربعين مؤلفا، طالت كل مناحي الفكر وإن مال في بعض الأحيان إلى الدراسات القرآنية، والسيرة النبوية الشريفة وخاصة في كتابه خزانة الأدب التي تزيد على ثماني مجلدات فقد معظمها وبقيت بعض النسخ من بعض الأجزاء، ولو جاءت مكتملة لنافست خزانة البغدادي في تخصصها، تحتفظ المكتبة العمرية بتلك البقايا، ونعتقد أنها ألفت في مدينة من مدن مالي الحالية حيث كان يسكن. وكتابه التراجمي فتح الرب الغفور في تواريخ الدهور، ينضم إلى كتابي فتح الشكور، للبرتلي، ومنح الرب الغفور للمحجوبي في تشكيل كوكبة من الكتب في ذلك الفن الذي امتاز به المشارقةوالمغاربة.
ولا نعدم شعرا يقوله فملحمته في تاريخ الشيخ عمر، لم تنل من الدرس والتمحيص من طرف الباحثين، فقد كان عمله الموسوم بشمس القصائد في تهنئة الحاج عمر بمثابة القلادة العظيمة التي قلد بها الشاعر ممدوحه، وهنأه فيها بما يستحق من خصال حميدة لا تعد ولا تحصى، فجاءت مملوءة بمعجم لا نظير له من معجزات الشيخ عمر. وما قصائده الغرر في رثاء فردين من أخواله البكريين، وهما: المرحوم حماد بن المرحوم الحاج سيدي أحمد بن الأمين بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن اعبيدمُّ القلاوي، ومحمد بن عبدِ بن الطالب محمد أحمد، وحجاج شنقيط إلا من درره الخالدة.
إن سيدي عبد الله يعد موسوعة فكرية رائعة ندعو الباحثين إلى دراسة مؤلفاته وتحقيق ما استطاع البحث أن يصل إليه منها، فهو أنموذج من اختلاط الثقافات، حيث نشأ في تيشيت ومات في بلاد السودان المعروفة الآن بمالي.
ويكفينا هنا أن نعلم بما قصدناه، فمن ولجه دخل في لجة من العلم الناصع عند تلك الأسرة التي أخذت مني وقتا طويلا في جمع تراثها، والتعرف على أماكن وجود ما هو موجود منه، وجعلتني أنظر إلى هذه الفكرة الرائعة إلى فكرة الأسر العلمية وما تحمله من خصوصيات فكرية وأدبية وخلقية.