لقد أجمع السلف الصالح، ويعتريهم ما يعترينا، من ضجر وملل وقلق ورتابة، وبذمتي، عزيزي القارئ، أن أقرّ لك بالفارق، بل بالبون الشاسع، الذي تتركه، تلك العوامل على الوسْمِ والدّلّ، لكل واحد منا ومنهم، والحال أنهم خير منا، كفّتهم شالت ورجحت، وثقلت موازينهم.
ولولا إرثهم، «لقد خسّ حظنا من الحكمة»، لقد أجمع هذا السلف الصالح على أن المتعلم، والمتلقّى، بشكل عام حين تُطيلُ له الشرح، وتُمعن له في التبصير، والتعليل، والتحليل، وتسهب في التفسير لفرع من فروع المعرفة، أو في فنّ من الفنون، لا غنى لك عن (الخروج على النص) كما يحلو القول للفنانين، فتُطْرفه بطُرْفة من الطرف تُسْليه، أو نكتة من النّكات توّاسيه من أجل(تجديد الطاقة الاستيعابية) كما يحلو القول للتربويين، ولعل الناظم لمّ شتات تلك المعاني في البيت المتداول:
وروّح القلب بذكر الطّرف
فإن ذلك صنيع السّلف
وفي اللسان (أحمضت الإبل إذا ملّت رعي الخُلّة، وهو الحلو من النبات، اشتهت الحمض فتحولت إليه (…) ويقال: أحمض القوم إحماضا، إذا أفاضوا فيما يؤنسهم من الحديث والكلام (…).
وفي حديث ابن عباس، كان يقول إذا أفاض من عنده في الحديث بعد القرآن والتفسير: أحْمضوا، وذلك لمّا خاف عليهم الملال أحب أن يُريحهم فأمرهم بالإحماض بالأخذ في مُلح الكلام والحكايات….)
ولا أخفى عنك سرا، عزيزي القارئ، أن هذه المعاني وَقرَتْ في أذني أيام الحداثة، فتاقت لها نفسي، فتشبّهت بالسلف الصالح، فأسرعت الخُطى نحو الشّأو، وضربة لازب، أني لم أدركه بعد، ربما ثناني ما ثنى بغاة المعالي… ولكني اعتمدت المنهج ذاته… اعتمدته في مزاولتي لمهنة التدريس، وفي خطبي في المهرجانات وفي مقابلاتي، واعتمدته حتى في المؤتمرات الصحفية، لما كنت ناطقا رسميا باسم الحكومة، وأترك لك، عزيزي القارئ، تقييمها بعُجرها وبُجرها، ولا تقل وجب الإمساك عنها، فقد صارت إلى ما قدّمت، عندها أقول لك ما قال ابن الونان: مهلا على رسلك، فهي تُستفاق من سِنَتَها كل حين.
وقد اعتمدته حتى فى المجالس والمآدب التى تُدعى لها الخاصة، والجَفَلى، وبالذات فى الأقطار العربية، إظهارا لبعد الموريتاني من العِي والنّأي به عن أن يكون حَصِرا (حصر الخطيب عجز عن الكلام) أو فَدْما (الفدم العاجز عن الكلام) كذلك، وردّا على ما حاك في نفوس البعض منهم، ولِمَ لا التحلّى بصفة الفصاحة، وسَمْت الخطيب المنْطيق، الأبياني والمنبرى، وبالجملة صفة الأحنف ابن قيس الذي (إذا تكلم جَلّى عن نفسه…)
وفي الذهن ما استعاذ منه عمدة الكتّاب العرب الجاحظ في مقدمة أيقونته، البيان والتبيين، «… ونعوذ بك من السّلاطة والهَذَر، كما نعوذ بك من العِيِّ والحَصَر…»، كنت أردد هذه الاستعاذة في سري، فبيان الجاحظ ماثل بين ناظري، اعتبارا لظرافته وطرافته وبلاغته، ومن لم يحْضره الجاحظ فقد انفصمت عرى بيانه وأخْلَقت، وثأتْ لُحمة خطابه، كنت أردده حتى وأنا في بيت سفير المملكة الأردنية الهاشمية، العامر بسلطنة عمان حفظ الله أرضها المعطاء وشعبها الأباة، وسلطانها المستنير، فى بيت صاحب السعادة زهير بن عبد الله، وقد كانت الدعوة على شرف سفير جمهورية مصر العربية، الذي انتهت فترة انتدابه، وقد عمّم الدعوة على السلك الدبلوماسي العربي، وكانت كريمة وباذخة، تذكرك بعبد الله بن جدعان، وقد حضروا جميعا، وكانوا يستملحون حديثي، ربما لحمولة «التجاسر» فيه، وقد اختاروني حتى لأتحدث باسمهم لوسائل الإعلام العمانية، بمناسبة تدشين مطار مسقط الدولي، وهو تحفة معمارية، والحق أقول، العيان فيه يربو على البيان، وتصاقبت الدعوة مع أزمة الخليج وقطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر الشقيقة، وكنت أول من تحدث، والسفراء إزاء الشأن العام الحيطة والحذر عندهم جُنّةٌ، خاصة في مثل هذه الحالات، وكان حديثي موجه لأعز أصدقائى عيد بن محمد الثقفي، سفير المملكة العربية السعودية، وأرجو من القارئ الكريم أن يطالع في الميداني (إياكِ أعني واسمعى يا جارة…) وقد رفعت منسوب اللغة على رأي العقاد، وقلت:
«الغمراتُ ثم ينجلينا…» ها نحن قد قطعنا العلاقات مع قطر، وغدا تنفرج الأزمة، وأنتم أشقاء، والمُعم المِخول من هذه الدولة وتلك من (مجلس التعاون) لا يقع تحت الحصر، وأنتم كأهل الشام لكم شمّة لأولادكم (لا تقبلون التّجْمير)، وعندها تذكروا إخوة لكم في أقصى المغارب (في المنكب…)، فلا تُنسيكم نشوةُ المصالحة، تذكرونا (إن الكرام إذا ما أيسروا…) وسعادة السفير السعودي له ذائقة أدبية يعز وصفها.
فضحك الجميع، واعتبروا، وأكرموني بالعهد والوعد….
ذكرتني المصالحة – موضوع الساعة- بالدعوة الكريمة:
تذكر نجدا والحديث شجون
فجُنّ اشتياقا والجنون فنون
تذكرتها فأردت أن أُحمض للقارئ الكريم في زمن عزّ فيه الإحماض وندر، والنّدرة بعض من سر نفاسة الأشياء.
كرو، بتاريخ 25 جمادى الثاني 1442ْ هجرية 9 فبراير 2021 ميلادية.