معرض الثروة الحيوانية بمدينة تنبدقه: خواطر وإيحاءات ومفارقات

خلال رده على مداخلات الأطر والمنتخبين في مدينة تنبدقه، ذكر رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني أن من دواعي الاهتمام بتنظيم سوق الثروة الحيوانية والتفكير في أنجع السبل للاستفادة منها على مستوى الفرد والمجتمع، أنه لاحظ أن قطعان الماشية الموريتانية تعبر الحدود إلى الدول المجاورة وأنها تصل أسواق ساحل العاج وبوركينا فاصو بالإضافة إلى مالي والسنغال. 
وقد دفعتني الملاحظات والمقترحات والمقاربات التي استعرضها رئيس الجمهورية، إلى استحضار بعض الحقائق والمفارقات والاستنتاجات حول الدور التاريخي لمدينة تنبدقه التي إن كانت حديثة النشأة زمنيا لكنها بالمعطيات التاريخية وباعتبار دورها المحوري تعتبر قديمة بحكم قاعدة تداول العمران وتبادل السكان.
وكذلك بحكم تسميتها ذات الرنة البربرية وبحكم الرواية المتداولة حول التسمية والتي تذكر أنها في الأصل اسم سيدة كانت تسكن في ذات الموقع. وهذه الرواية تذكرنا بنفس الرواية المذكورة عن تينبكت.
وبالنظر لموقع تنبدقه الاستراتيجي في محيطها الجغرافي ، كان لها شرف حمل شعلة العلم و الثقافة والأدب والحضارة بالإضافة الى العامل الاقتصادي المتمثل في التجارة.
أما وجهها الحضاري فهي تقع على مرمى حجر من كومبي صالح على اعتبار أن كمبي صالح هي عاصمة مملكة غانه. فقد ورثت عن غانة دورها الاقليمي كمحطة رئيسية في المبادلات التجارية. 
وقد تعزز هذا الدور بعد أن ورثت تنبدقه التأثير العمراني والسكاني والعلمي والتجاري للمدن التاريخية وخاصة مدينتي تيشيت وولاته. 
أما التأثير السكاني فيتجلى في وجود جالية من مدينة ولاته وجالية من مدينة تيشيت استوطنتا المدينة منذ بداية تأسيسها. وقد كان الطابع الولاتي في المجال العمراني للمدينة جليا. فقد استجلبت إليها الإدارة الفرنسية البنائين من ولاته وبهم أنيطت مهمة تشييد البنايات السكنية والإدارية في المدينة. ويتجلى الطابع الولاتي الأصيل في تنبدقه من خلال المسجد العتيق الذي بُني بها على نفس طراز مسجد ولاته القديم. وقد بناه جدنا سيدي بن حمادي رحمه الله مستعينا بالبنائين الولاتيين وكان له سابق معرفة بهم لأنه من سكان ولاته جده لأمه العلامة محمد يحيى الولاتي المتوفى 1912م. وأرخ جدنا لتاريخ تأسيس المسجد بقوله من بحر الرجز : 
بني ذا المسجد في عام (بني)
أساسه التقوى كما له بني
والرمز في "بني" الثانية وتوافق العام 1362/1943.
توفي الجد سيدي بن حمادي عام 1988 بعد أن تجاوز التسعين؛ قضى منها ما يناهز أربعين سنة في إمامة المسجد وتعليم العلم، والقيام بشؤون المسجد. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته. 
وأما التأثير العلمي لمدينتي تيشيت وولاته فقد تمثل في انتقال أسر علمية عديدة من تينك المدينتين التاريخيتين ومن غيرها من مناطق وولايات الوطن واستوطنت مدينة تنبدقه ومنها على سبيل المثال لا الحصر أحد فروع أسرة أهل ابُّ القادمين من ولاته ، وأسرة أهل امبالّه القادمين من تيشيت. ولا يمكن إغفال ذكر أسرة أهل بيّه التي شكلت رافدا علميا وروحيا مشهودا لا يمكن أن ما فيه حقه في هذه العجالة. على أن أسرة أهل بيّه كان لها الفضل في استقطاب علماء كثر من شتى مناطق البلاد إلى تنبدقه ومنهم على سبيل المثال الشيخ محمدُ سالم ولد الشين الاكوجي(إدكوجك) دفين تنبدقه والشيخ محمدُ ولد متالي الحسني والشيخ محمد محمود ولد أفلواط اليعقوبي. ومن العلماء من خارج منطقة الحوض الذين زاروا المنطقة أبو مدين بن سليمان الديماني ويحضرني هنا أبياته التي قالها لما لقي محمد المختار بن محمد يحيى الولاتي في مدينة النعمة وكان ذلك بعيد وفاة "لفقيه" ( وهو علم للعلامة محمد يحيى الولاتي )، قال:
أما وذمير العيس في كل فدفد
وإنجاز عهد الوصل من أم معبد 
لمن نعمة المولى علي بقصرها 
لقائي مع الأشراف في مشهد 
لئن فاتني يحيى بعيد محمد 
لما فاتني المختار بعد محمد

وأما تداول الوظائف التجارية بين تنبدقه وتلك المدن التاريخية في ما كان يعرف بالتجارة عبر الصحراء فإن خير دليل عليه ما ورد في مرثية لأحد رجالات هذه المدينة الكبار وهو الأمير اعلي بن محمد محمود المشظوفي الملقب "سلطان الحوظ" المتوفى 1942 والذي يقول في رثاءه الشاعر لوليد ولد دندني وسأقتصر هنا على محل الشاهد من تلك المرثية: 
واكْوابير لْكيفن جات
رافدَ من زهو أروان 
ورافد من حاجات توات 
وحاجت اكليميم وودان

فالمناطق والحواضر التي ورد ذكرها في هذه القصيدة التي قيلت في أربعينيات القرن الماضي، تعتبر كلها مناطق مركزية في التجارة عبر الصحراء. 
ومعلوم أن مسالك التجارة عبر الصحراء كان من أهمها وأقدمها المحور الغربي الذي يربط سجلماسة بولاته وأقدم منه طريق اللمتوني الذي يمر بمحاذاة المحيط الأطلسي. وبحسب الرأي الذي تواضع عليه جل الباحثين في الموضوع فإن أقدم المدن هي الواقعة غربا وكل ما اتجهنا شرقا كانت المدن أحدث نشأة. 
وأن تكون تنبدقه مركزا ووجهة لتلك القوافل التي تربط شمال القارة بجنوبها، فان ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن مدينة تنبدقه كانت تمثل محطة مهمة على طريق المبادلات التجارية وأنها ورثت ذاك الدور من تيشيت وولاته وفق القاعدة آنفة الذكر.
لكن عامل الجذب في تنبدقه لم يقتصر على الروافد الداخلية، ذلك أن المدينة استقبلت واستوعبت عوائل وأسرا من مالي والسنغال وفولتا العليا( بوركينا فاسو حاليا ) وتعيش ساكنة هذه المدينة بمختلف تجلياتها في لحمة اجتماعية لا مثيل لها..
وأخيرا فإن بودي أن أعرج قليلا على تسمية المدينة و طريقة كتابة اسمها، هل بالقاف أم بالغين. ولرفع هذا الإشكال أقول إنني كنت سابقا أنطقها بالغين لكنني بالنظر إلى ما ورد في بعض الشعر الحساني تأكد لي أنها تنبدقه وليست تنبدغه.
يقول محمد محمود ولد لبات ويلقب " انْجُبْنان" أحد أبناء المدينة وشعراء مشظوف في قصيدته التي أنشأها قبل وفاته: 
الدنيَ يمالك لملاك  
  لكانت تبق محق
يبق فيان منه ذاك
  يغير الدنيَ ما تبق
يالعكِل أصبر تجلاجك دور  
  كان أخلاكك تبرد بشور
خالك ياسر من ش ميسور  
  ريتُ ما فيه المشق
ؤياسر زاد إودي لغرور
  تكول الناس أنو يُتق
فت أجبرتُ واجبرت ادهور
   النعمه واجبرت الطبــق
ؤعاكِب هاذ ريت المكدور 
    وامنين اعليك أل شقه
أحمد ربك، ربك غفــــــور   
   أل ذ الدنيَ ما تبـــق
فاتت ذيك النعمه وإدور
  إفوت أنيور ؤ تنبدقه

وعلى أساس هذه القصيدة القديمة نسبيا فإن اسم المدينة يكتب بالقاف لا الغين.
وأخيرا فإن السؤال القديم المستجد يطرح نفسه من جديد، فهل صحيح أن التاريخ يعيد نفسه بحكم أن مدينة تنبدقه قد استعادت دورها التاريخي من خلال معرض الثروة الحيوانية الأول من نوعه في بلدنا؟

د. محمد الأمين بن حمادي
جامعة نواكشوط  

 

 

اثنين, 05/04/2021 - 01:18