التاريخ يحارب فرنسا وفرنسا تحارب الإسلام!

قررت فرنسا تحويل الدورة الـ28 لقمة "افريقياـ فرنسا" التي استضافتها يوم الجمعة الماضي إلى قمة بين الرئاسة الفرنسية والشباب الافريقي، ممثلا للشعوب الافريقية؛ واستبعدت كلية الرؤساء والقادة السياسيين الذين كانوا أصحاب حضور هذا المؤتمر وضيوفه خالصا لهم من دون الشعوب، وربما على حسابها!

حضر الرئيس الفرنسي متواضعا، جدا وتظاهر بقدر كبير من الحماس والتفهم، وهو يناقش مع الشباب الإفريقي مختلف قضايا القارة وخاصة علاقاتها مع فرنسا.

طبعا حرص معدو المؤتمر من الفرنسيين، وممن انتدبوا من الأفارقة على انتقاء أسماء 1000 من الشباب من مختلف دول القارة، يمثلون شتى الاختصاصات الثقافية والاقتصادية والفنية... الخ.

ومع ذلك طرح مَن أتيحت لهم فرصة الكلام قضايا حساسة تدمغ الدولة الفرنسية وتحرجها في هذه الفترة بالذات؛ مثل ماضي فرنسا الاستعماري وجرائمها في القمع والقتل والاستعباد ونهب الثروات، ثم ماضيها وحاضرها في تمكين ودعم الأنظمة الديكتاتورية في القارة الإفريقية...

أما الرئيس ماكرون فلم يقدم أجوبة شافية عن كل ذلك، وإنما عبر عن رغبته في إقامة نموذج جديد للعلاقات مع القارة، وأقر بـ"مسؤولية فرنسا الكبيرة في تجارة الرق والاستعمار"، لكنه لم يجرؤ على الاعتذار عن الماضي، وإنما ردد مقولته المتهافتة: "لا يوجد اعتذار عن الاستعمار ولكن يوجد اعتراف"! 

 

فرنسا مذعورة!

في أيام متقاربة تلقت فرنسا صفعة وإهانة مع خسارة نحو 40 مليار دولار، من داخل محيطها السياسي والاستراتيجي الغربي، حين رمت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا عُرض المحيط الهادي بصفقة الغواصات مع هذه الأخيرة دون إشعار ولا اعتبار للحكومة الفرنسية التي بدت عاجزة تماما عن رد مؤثر ولا حتى رد اعتبار!

ثم جاءت صفعة أخرى من جهة مختلفة كليا؛ من دولة ضعيفة وفقيرة تعتبرها فرنسا من عيالها "الحقير" في إفريقيا. 

إنه موقف جمهورية مالي المناوئ والمتحدي، لدرجة التفكير في استبدال الحماية الفرنسية بروسيا أو غيرها!

وهذه المرة غضبت فرنسا، وحق لها! وأدى تطاولها إلى تصريحات متشنجة وقبيحة من الرئيس الفرنسي شخصيا، الذي يبدو أنه غير راض ولا منسجم مع آخر انقلاب في ذلك البلد الذي يهدده الفقر والإرهاب، ولم تنفعه فرنسا في هذا ولا ذاك، فضاق ذرعا بها.

وبين عار وخسار إلغاء صفقة الكبار الغربية، والصفعة المالية الإفريقية، عَلِقَ ماكرون في الجزائر؛ الجزائر التي ارتكبت فرنسا أشنع وأبشع جرائم الاستعمار وموبقات الاحتلال في أرضها الطاهرة التي احتضنت أرقى الحضارات، جاء مكرون ليسجل اعتداء فرنسيا جديدا عليها بالقول إنها لم تكن شيئا قبل استعمار بلده المشؤوم!

رد الجزائر كان ـ كالعادة ـ قويا وصارما، تضمن خطوة عملية معبرة هي منع الطيران العسكري الفرنسي من عبور الأجواء الجزائرية الواسعة.

 

الحرب الصليبية التاسعة:

ينسب لعميد الأدب العربي طه حسين قوله:

"كان الفرنسيُّون في بعض أوقاتهم يتحدَّثون عن انتشار ثقافتهم في الأرض فيقول قائلهم: إنَّ لكلّ مثقَّفٍ وطنين؛ أمَّا أحدهما فوطنه الَّذي وُلِدَ فيه ونشأ، وأمَّا الآخَر ففرنسا الَّتي تَثَقَّفَ فيها أوْ تَلَقَّى الثَّقافة عنها".

ولقد ضجت قراطيس المثقفين والمفكرين العرب والمسلمين في نهاية القرن الميلادي الـ19 وأوائل القرن الـ20 بالإعجاب بفرنسا وثقافتها ومناخ الحرية والتسامح الذي غشيهم فيها، حتى عدوها ملهمة للعلم والوعي فوصفوا باريسها بحقل الثقافة وعاصمة الأنوار والتنوير... الخ.

وفعلا كانت فرنسا على جانب من ذلك في تلك الفترة، يكاد يغطي خطايا الاستعمار المتلبسة بها في ذلك الزمان!

لكن فرنسا، كما كتب الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفراي (Michel Onfray)، مؤخرا: "لا تنتهج سياسة حضارية لسبب وجيه وبسيط، هو أنها لا تملك سياسة وتحتقر حضارتها"، ويحدث ذلك منذ عام 1969، وبالتحديد منذ اختفاء سياسة الجنرال شارل ديغول".

وفعلا فقد لازم الحضارة الفرنسية قدر لا بأس به من تقدير الحضارة الإسلامية والاعتراف بمحاسنها وفضائلها الكثيرة، حتى عبر عن ذلك أكبر قادة الفكر والعلم والمجتمع من فلاسفة فرنسا، خاصة آباء الثورة الفرنسية العظيمة (1789م)؛ من أمثال جان جاك روسو J.J.Rousseau (1778) وإلى حد ما مونتسكيو Montesquieu (1755م) وفولتير Voltaire(1778م) في آخر كتبه...

ومع الازدهار الاقتصادي والنمو الصناعي استقبلت فرنسا آلافا من المهاجرين المسلمين، وخاصة من مستعمراتها السابقة، كعمالة إنتاج رخيصة. وكان من الطبيعي أن يستفيد المهاجرون من قوانين الحرية والنظام العلماني، ليحافظوا على دينهم وخصوصياتهم الاجتماعية، رغم انسجامهم الثقافي (اللغة) والقانوني مع المجتمع الفرنسي وجمهوريته القوية.

هذه العلاقة الأفقية الحذرة بين فرنسا والعالم الإسلامي لم تزدهر طويلا بعدما اتضح أن منح فرنسا الاستقلال لمستعمراتها العربية والمسلمة، لم يكن تخليا عن أحلامها الاستعمارية؛ بل كان تغييرا تكتيكيا للممارسة الاستعمارية نفسها.

ومع تنامي نفوذ اليمين داخليا وتراجع مكانة فرنسا خارجيا، وتمسك الفرنسيين الجدد بالإسلام، وانتشاره بين الفرنسيين الأصليين، بدأت السلطات الفرنسية تضيق ذرعا به وبالمسلمين جميعا، وتحيي العداوات التاريخية باسم "حماية العلمانية" التي لم يعد لها اعتبار عندما يتعلق الأمر بالإسلام واستهداف المسلمين الفرنسيين (يزيد عديدهم الآن على ستة ملايين) مما ولد ردات فعل متطرفة وعنيفة أحيانا بين شباب المسلمين المعزول معظمهم في الضواحي!

وبوصول الرئيس اليميني المتطرف إيمانويل ماكرون إلى الرئاسة (2017م) جرد سيفه على الإسلام نفسه، مساويا بين من يَحمِلونه دينَ تسامح ومحبة وبناء، وبين الشواذ الذين يرفعون شعاراته إرهابا وقتلا وتطرفا...

حملة ماكرون على مواطنيه المسلمين كشف فيها عن عداء مطلق للديانة الإسلامية التي اخترع لها افتراءات جديدة مثل "الانعزالية"، وزعم في خطابه الفاضح (قبل سنة) أن الإسلام "يعيش أزمة في كل مكان من العالم"... 

ولم يكتف بذلك بل باشر سلسلة من القوانين والإجراءات الإدارية والأمنية مثلت، حتى في نظر كثير من الفرنسيين، خرقا وتحطيما لمبادئ الجمهورية الفرنسية الثلاثة (الحرية والمساواة والأخوة Liberté, égalité, fraternité)، وتمييزا عنصريا صارخا ضد الإسلام والمسلمين في فرنسا، لم تطل إجراءاته الظالمة الطوائف والديانات الأخرى!

 

مَن المأزوم؟

فرنسا دولة عريقة قوية ومتقدمة في المجال الاقتصادي والصناعي والعسكري، وعضو دائم في مجلس الأمن؛ هذا مما لا شك فيه... ولكنها ببساطة ليست الوحيدة، وعليها أن تحافظ على تلك المكانة، مما يتطلب سياسة حكيمة وجهدا مضاعفا.

لقد أظهرت التطورات التي مررنا بها أن الجمهورية الفرنسية تواجه تحديات تسبب لها الإزعاج والقلق فعلا.

وبينما تتقلص آمالها العريضة في الاتحاد الأوروبي، الذي أصابه خروج بريطانيا في الكبد، ويتعرض لخضات قوية من الداخل، تواجه فرنسا منافسة متزايدة في مجالها الإفريقي "الخاص" من قوى كبرى، عسكرية واقتصادية، عدوة لحِلفها الغربي التقليدي؛ خاصة من روسيا والصين وتركيا...

ولعل أشد ما يؤلم فرنسا ويدعوها للتشاؤم والطيرة، هو ثلم سيفها وارتخاء حبل سيطرتها الناعم ألا وهو ثقافتها ولغتها الفرنسية، التي لم تستطع تجاوز حدودها وعواصم مستعمراتها الإفريقية.

وحتى في إفريقيا "الفرنسية" باتت لغة باريس مهددة بالهجر، رغم أن فرنسا لا تتساهل في ذلك؛ بل تربط مساعداتها وحمايتها و"رضاها" بلسانها، لأن "بأسها في لغتها" كما يقال!

قبل أيام أعلنت دولة الغابون، انسحابها من منظمة الفرنكوفونية والتحاقها بمجموعة الكومنولث الناطقة بالإنجليزية، قائلة: "إن اللغة الفرنسية لم تعد تساير التحولات التكنولوجية والمعرفية والتنموية الطارئة في العالم". 

وقبلها كانت رواندا السباقة إلى تطليق الفرنسية بالثلاث، ويبدو أنها حمدت عقبى ذلك!

ولكن ما زلنا نحن ومعظم إفريقيا الغربية نلتزم "البرور" وآداب التعظيم، نقبع في القاع، لنكون آخر من يدفن جثمان هذه اللغة، بعدما يكون تعليمنا واقتصادنا المربوطان بها قد باتا رميما في مقبرتها...

 

م. محفوظ أحمد

ثلاثاء, 12/10/2021 - 15:23