قوات النخبة في إفريقيا.. الانقلابات من تآمر مستفيضة إلى تسويل نفس

في الفترة الأخيرة فرضت الانقلابات نفسها ظاهرة للتحليل, لتلاحقها في منطقتنا ولأننا للأسف الشديد أصحاب وصفة شرعنة الانقلابات -شرعنة حكومة الأمر الواقع- بشقيها التعامل مع المعارضة الداخلية والعزلة الخارجية وصولا إلى اكتمال “المِي” انسلاخ قائد الانقلاب من بدلته العسكرية إلى ثوبه المدني. وبنجاحنا في شرعنة انقلاب على رئيس مدني منتخب في بداية عهدته الأولى, بدر شرعيته, كرسنا القناعة بين ضباط إفريقيا والعالم أن الحائل الوحيد بينهم والسلطة هو قدرتهم على اغتصابها, كل ما سيأتي بعد ذلك لا يبعث على القلق, فقد فصلت الوصفة الموريتانية آلية التعامل معه بنجاح.

 

طفح للتشوه الأخلاقي

إن الانقلابات قبل كل شيء ظاهرة تشوه أخلاقي, فهي تعكس حجم مسامية العازل القيمي الذي ينسجه مجتمع معين بين المستطاع والحق. فكلما ترسخت القناعة بأن ما ليس حق لا سبيل إليه وإن تعبدت سبيله, تراجعت الانقلابات لأن منبتها أخلاقي, يقوم على مستوى تقبلنا أن المستطاع حق. وإن مجتمعات لا مأمن فيها للمالين العام و الخاص من “رازيا” المسيرين, لا فطام لها عن المحاولات الانقلابية, لأن الرئاسة زيادة على عبق السلطة أوسع المنافذ إلى المالين العام والخاص.

إن عملية البناء الأخلاقي, التي تشكل العاصم الحقيقي من الانقلابات لأنها تستأصل غددها في نفوس الأفراد, عملية معقدة, تتطلب إن توفرت الإرادة والمقاربة السليمة عقودا وربما قرون, فهل ننتظر أن تثمر شجرة البناء الأخلاقي لنحمي مجتمعاتنا من عدم الاستقرار وتبعاته التنموية التي تولدها الانقلابات؟ فكل انقلاب يهوي بنا سفح التنمية الذي نتسلقه بصعوبة يكبحنا الفساد والتفريط والعجز, وتقيدنا الانتظارية, ويثقلنا ضعف العائد الديموغرافي. فإذا كنا لا نستطيع تحقيق التجفيف الكامل لمنابع المحاولات الانقلابية دون اكتمال عملية البناء الأخلاقي, فإن علينا أن نجد المقاربة الأمثل لتهيئة ظروف فشلها, تفاديا لنتائجها الكارثية, ولأن زيادة احتمال فشلها يسهم في تجفيف منابعها لأن الانقلابات ككل عمل إجرامي يخضعها أصحابها لعملية تقدير موضوعية للمكاسب.

 

قوات النخبة.. فشل مقاربة الولاء والتمكين

لقد أدت “الحكمة الاستثنائية” لكثير من الحكام الأفارقة التي لا تخطئ العين أثرها التنموي ولا ينتظر من مسارهم غيرها, وهلعهم من الانقلابات, وعدم ثقتهم في المؤسسة العسكرية -التي لا يعرفها المدنيون منهم وحتى العسكريون تنقطع صلتهم بها تدريجيا مع انشغالهم بممارسة السلطة وتقاعد أجيالهم من الضباط- إلى تبني مقاربة الولاء والتمكين, بالاعتماد على مجموعة قليلة من الضباط تنحصر تدريجيا مع تراجع معرفتهم بالمؤسسة العسكرية وتعاظم البارانويا عندهم. فيعملون على تمكين هؤلاء الضباط والوحدات التابعة لهم من أدوات التفوق العسكري على بقية المؤسسة, ومع انحصار عدد هؤلاء الذين يلزم تدخل وحداتهم أو حيادها لنجاح عملية الاستيلاء على السلطة يتحول الانقلاب تدريجيا من تآمر مستفيضة يصعب تنسيقه وكتمانه إلى تسويل نفس لا يحتاج إلى تنسيق, خاصة إذا أصبحت وحدة واحدة تمتلك من التجهيزات ما يجعلها تتفوق على بقية الجيش.

يبدو واضحا أن اعتماد مقاربة الولاء الفاشلة أثمر عدة انقلابات في منطقتنا, من أكثرها وضوحا انقلاب غينيا كوناكري التي قرر رئيسها “المدني” أنه ارتضى الرئاسة لبقية عمره, ولحماية نفسه من الانقلابات اعتمد على ضابط متقاعد من جيش خليط الأمم الذي تتخذه فرنسا دروعا مدربة لجنودها, تعضده ضابطة من الدرك الفرنسي, وقد اثبت الرجل أنه من كثير الخلطاء, ومكنه مما يلزم لحماية الرئيس من المؤسسة العسكرية, فتحول الانقلاب من جراء ذلك إلى تسويل نفس, فسولت له نفسه خلع رئيسه فخلعه. والأمثلة على فشل مقاربة التمكين ثقة بالولاء كثيرة منها ما أنتم أدرى بتفاصيله مني. ويعود فشلها إلى أن ولاء أي ضابط لرئيس وإن تعاظم لن يعظم ولاءه لنفسه, فإن مكناه أخذ, وتأول لنفسه إرضاء لضمير ضعيف الشكيمة تشكل في مجتمعات شهدت انهيارا للمنظومة القيمية خلال التحول من المجتمعات الضيقة في الأرياف إلى مجتمعات المدن الكبيرة نتيجة تفكك المانع المجتمعي وفشلنا في تصور وإحكام مانع عدلي بديل**.

في جمهورية مالي الشقيقة التي يتفطر القلب على واقع أجيال من أبنائها ومستقبل أخرى, خاصة من الطوارق والعرب, وبصفة أخص من الفلان أجارهم الذي نشروا توحيده عبر أرجاء القارة مما يعد لهم, جهزت الحكومتان المالية والفرنسية وحدة لتكون نخبة الجيش في مواجهة الإرهاب الذي يهدد وجود الدولة المالية, فأخذوا خيرة الضباط الشباب, ودربوهم أحسن تدريب, ووضعوا تحت تصرفهم خيرة العناصر والأسلحة. فكانت النتيجة أن هؤلاء الضباط وجدوا أن نحر الرئاسة أيسر وأنفع من شبح الإرهاب, وأن طريقه بعد عملية التمكين أصبحت معبدة, فقاد قائدهم انقلابين نفيرا للأنانية, ولا يزال يصارع بجميع وسائل الدولة لترسيخ حكمة الذي انتخبته له قطع السلاح التي وضعتها الأمة المالية أمانة بين يديه.

على الجهة المقابلة لتكتمل الصورة, في بوركينافاسو حين قاد الجنرال اديندري انقلابه في سبتمبر 2015 لم يكمل أسبوعا في السلطة رغم أنه اعتقل الرئيس وحكومته, لأن الوحدات تداعت من مختلف أنحاء البلد فكان على الجنرال أن يختار بين كفنه وسحنه, وكأمثاله من أبطال الانقلابات الذين لا مثيل لجسارتهم على رقاب العزل حملته “شجاعته” على ارتضاء السجن. كان ذلك ممكنا لأن اديندري لم يستفد من آلية التمكين التي تعطي وحدة قائد الانقلاب تفوقا على بقية الوحدات, والتي يمهد بها الحكام سذاجة للانقلاب ثقة بالولاء.

إن العاصم الوحيد من الانقلابات هو ترسيخ منظومة قيمية محورها الأمانة على الأموال والحقوق*, تجعل الحق –بدل المستطاع- إطارا للتصرف وأرضية للحرية. وفي انتظار ذلك ولأن إفشال انقلاب مجموعة من الشباب الطامح للسلطة أو الحالم بالإصلاح, يرى صورته في مرآة مقعرة يحسب لنفسه قدرة فوق قدرته وكفاءة فوق كفاءته, أيسر من إفشال انقلاب رجل مكنا له حتى فرشنا طريق انقلابه بالورود, فإن أنجع المقاربات لتفادي الانقلابات هي الثقة بالمؤسسة العسكرية, وذلك يقتضي توفير السلاح والذخيرة لجميع الوحدات حسب مهامهم وحاجتهم دون أي اعتبارات أخرى, والابتعاد عن استخدام الجيش للمهام الأمنية والتأمينية الدائمة التي ليست من مهامه المتعارف عليها دوليا, واختيار القادة وفق آلية موضوعية مرتبطة بالمهام والأداء, والتعامل مع الجيش بروح المؤسساتية, لأن ذلك يمنع تكامل أدوات الاستيلاء على السلطة عند مجموعة قليلة من الضباط ويسمح بامتلاك بقية المؤسسة العسكرية آلية إفشال الانقلاب. اعرف أن هذا ليس بالأمر السهل لتجذر الشخصنة في ثقافتنا التعاملية.

وفق الله وأعان

 

د. م. شماد ولد مليل نافع

----------------------

المقال لا يتحدث عن الانقلاب الأخير في بوركينافاسو لأنني لم أتوفر بعد على ما يلزم من معلومات, ولكن من المؤسف أن نرى من جديد مجموعة من الشباب, تخلو وجوههم من أخاديد التجربة, ولغتهم من شوائب المعرفة, ينصبون أنفسهم خلفاء على مصير أمة, لمجرد أنها ائتمنتهم على السلاح, ولأنهم تشبعوا خيانة الأمانة.

* أزمة أمانة

http://aqlame.com/node/6964

** كيف اهترأت المنظومة القيمية عندنا؟

http://aqlame.com/node/4508

ثلاثاء, 08/03/2022 - 23:20