لماذا تحدثنا عن العشرية وعن النهج كثيرا! (6)

لا ينتهي حديث هؤلاء عن هذه العشرية وما ميزها عن سابقها من العشريات والعشرينيات، فقد تميزت أيضا بما يسمونه انهيار الصحة والتعليم ومؤشراتهما وترتيب البلد بخصوصهما، ولكننا تحديناهم كثيرا، ولا نزال نتحداهم  بأن يُخرجوا لنا المؤشرات السابقة للبلد في هذين المجالين، إذا كانت بحوزتهم، لنتخذها مرجعية ونعرف من خلالها هل فعلا تدهورت الصحة وانهار التعليم! فأنت مثلا عندما تقف على الميزان لقياس وزن جسمك ومعرفة ما إذا كان زاد أم نقص، فلا بد لك من الرجوع في ذلك لوزن جسمك في آخر مرة تقف فيها على الميزان.. وهذا هو المنهج العلمي لأي تقييم حقيقي يمكن الانطلاق منه والبناء عليه.

 

 ومجانفة للحقيقة والواقع أن الصحة والتعليم لم تُبذل فيهما جهود كبيرة خلال هذه السنوات غيرت من واقعهما كثيراعما كانا عليه، وبشكل جعل من يريد اليوم إصلاحهما والرفع من أدائهما سيجد الأرضية أمامه ممهدة لذلك، فأنت لا يمكنك الانشغال، إذا كنت جادا، بإصلاح وضع بحاجة للإنقاذ وخلق ظروف ومقومات إصلاحه أولا.. إذ كيف كان بالإمكان إصلاح تعليم بلا بنية تحتية لجميع مستوياته، ولا روافد تمده بالمدرسين والمؤطرين، وبخريطة مدرسية سائبة! وكيف كان بالإمكان إصلاح صحة بلا بنية تحتية هي الأخرى، ولا أجهزة تشخيص، ولا مخابر تحليل، ولا كادر بشري؟! اليوم فقط وبعد قطع أشواط كبيرة في وضع هذه الأساسيات أصبح بالإمكان إصلاح والرفع من مردودية هذين القطاعين وبشكل عملي، لا بطريقة القفز على الأساسيات ووضع العربة أمام الحصان أو السلام قبل تكبرة الإحرام!

 

 فالذين درسوا هنا مرحلتي التعليم الأساسي والثانوي سبعينات وثمانينات القرن الماضي درسوا عندما كان التمدرس قليلا، وعندما كان يعلمهم معلمون متحمسون مكتفون بما هو متاح من وسائل عيش بسيطة آنذاك، لم تشوش عليهم الطموحات في التفريغ والترقي في المناصب الإدارية بعد، ويدرسهم في المستويات الثانوية أساتذة عرب وأجانب جيدون مبتعثون في إطار التعاون الثقافي مع بلدانهم لم يأت بهم من تلك البلدان سوى التدريس والتفرغ له، مصريون وسوريون وعراقيون وتونسيون وجزائريون وفرنسيون.. وحين كان لا حاجة للتعليم الخصوصي لكفاية ما هو متوفر من طواقم تأطير ومن مؤسسات تعليمية مع الكم المُتمدرس من التلاميذ والطلاب آنذاك، وحين كان لا تلفزيون ولا أفلام ولا مسلسلات حينها، بل ولا طامة التعليم الكبرى اليوم ليس في بلدنا فحسب بل وفي جميع بلدان العالم والممثلة في الإعلام الرقمي، إذ لا حاجة لك اليوم باختبار مستويات تلاميذ وطلاب تمر عليهم يوميا أمام المؤسسات التعليمية، بل وفي بيوتهم وفي حضرة ذويهم، وسماعات هواتفهم تتدلى من آذانهم غارقون في عوالم أخرى مما ينتجه ويبثه هذا الإعلام الذي من سوء الحظ، بالإضافة إلى تيسره أن أسهله استيعابا وأكثره تشويقا للشباب في هذه السن هو غثه وتافهه ومنحرفه!

 

بعض البلدان وخاصة في أوروبا انتهبت لهذه الطامة ومنعت منعا باتا استصحاب التلاميذ والطلاب للهواتف الذكية إلى المؤسسات التعلمية، ونظمت حملات وبرامج مكثفة في أوساط ذوي التلاميذ لمراقبة استخدام ابنائهم لهذا الوسائط في البيت.. فحذار إذن من أن نجلس غدا في منتديات ومشاورات لإصلاح التعليم، فنتحدث عن البرامج وعن المدرسة الجمهورية، وعن رفع مرتبات المدرسين إلى مليون أوقية فما فوق، ونغفل جانب المغريات والمؤثرات الأخرى التي كانت داخلية في البيت متمثلة في التلفزيون وكان لها تأثيرها السلبي الكبير، وأصبحت خارجية مرافقة للتلميذ في يده وجيبه وأصبح لها تأثيرها المدمر! أو نغفل أيضا أن التعليم مرتبط وبشكل وثيق بسياق إجتماعي ثقافي اقتصادي عام لا ينفع ولا يكفي معه التركيز على إصلاحات لا تأخذ في الاعتبار ذلك السياق.

.

 ثم من هم معلمونا ومدرسونا اليوم! إنهم ليسوا سوى خريجي هذا الواقع المتداعي عبر العقود، ونسبة النجاح في الباكالوريا اليوم التي هي مقياس البعض لما يسميه انهيار التعليم جاء أصحابها يجرون معهم تدني المستويات من السنة الأولى ابتدائي قبل 12 سنة، وبدأ أغلبهم  الدراسة في الفصول الابتدائية مع ألئك المعلمين، والمعلمات، المتسربين من السنوات الأولى ابتدائي بالكاد يكتبون سطرا ومستقيما  فيدخلون المدرسة الوحيدة لتكوين المعلمين بالمسابقات المغشوشة، وألئك الآخرين الذين تم جمعهم من الشارع بداية هذه الألفية و تم " تكوينهم " على السريع وبثهم في المدارس بدون أية مستويات علمية ولا تربوية!

  

وكثيرا ما نسمع من مستسهلي نقل تجارب ومقاربات المجتمعات الأخرى القول، وبكل بساطة، كما ينتقلون هم من حزب إلى حزب ومن موقف سياسي إلى آخر، إن الرئيس الماليزي ماهاتير محمد عند وصوله للحكم دعا جميع معاونية وسألهم كم هو راتب المدرس فقالوا له إنه كذا.. فقال لهم ضاعفوه عشر مرات، لكن ما هي الظروف التي وجد فيها مهاتير محمد ماليزيا؟ لقد وجدها فعلا دولة فقيرة ومتخلفة ولكن فقرها وتخلفها كان نسبيا وبشكل كبير بالنسبة لأوضاع بلدنا قبل سنوات، حين لم تكن تلك الأوضاع بالحد الأدنى مما يشجع حتى السكان على الإستقرار في مواطنهم، أحرى قبول مدرس أو معلم أو طبيب أو ممرض الإقامة معهم والتدريس أو التطبيب في ظروفهم التي يعيشونها، مما أدى لنزوح سكان الداخل إلى العاصمة بحثا عن تلك الخدمات، والضغط المكثف على الحد المتواضع أصلا والمتوفر فيها من خدمات هي الأخرى بما في ذلك خدمات التعليم، فاختلط الحابل بالنابل وتعقد الوضع وتشابكت وتراكمت انعكاساته وبالتالي تعقد حله!

 

بينما وجد ماهتير محمد ماليزيا، رغم فقرها، بلدا يوفر حدا لا بأس به من الخدمات الأساسية في مدنه وأريافه وقراه صحة ومياه وكهرباء ومواصلات.. كما أنه لم ينطلق من رؤيته في التعليم أيضا من فراغ،  بل اعتمد على تجربة اليابان قبله والقائمة على التركيز على تدريس العلوم الحديثة، والابتعاث المكثف للبعثات الطلابية نحو الغرب لدراسة هذه العلوم والعودة لتدريسها في اليابان، وفي نفس الوقت استقدام الأساتذة الأكفاء من الغرب للتدريس في اليابان إلى أن اكتفت ذاتيا من المدرسين والمكونين.

 

أيضا وإلى جانب العناية التي أولاها مهاتير محمد للعلوم الحديثة، والتركيز على إنشاء ونشر معاهد التكوين والتدريب تهيئة للثورة الصناعية التي ينوي إطلاقها، فإنه ركز أيضا على اللغات الأجنبية والإنجليزية خاصة لضمان الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية التي من المستحيل الاستفادة منها دون التمكن من هذه اللغة، ولدور التنكنولوجيا الرقمية في " الإقتصاد المعرفي " الذي انتهجه والذي هو اقتصاد اليوم المختلف نوعيا عن الإقتصاد التقليدي القائم على الاستمتاع بالريع والاستلقاء انتظارا لدفعات أخرى من ريع جديد.. بينما لا نزال نحن نخوض في جدلية التعريب الكلي لتدريس المواد العلمية و الفرنسة الكلية له، قابعين في خنادقنا العاطفية والإديولوجية والسياسية وأصابعنا على الزناد .. حتى مع إدراكنا واعترافنا بأن المحتوى الرقمي العربي من هذه المعارف لا يزال محدودا إن لم يكن معدوما، ولا آفاق فريبة حتى للرفع منه، فلو كان هذا المحتوى كافيا وزاخرا بالمعارف، والتكنولوجي منها خاصة، بجميع اللغات فلا أحد سيختار لغة غير لغته ولكن ذلك ليس هو الواقع!

 

وللعلم والتذكير فإن المدرسة الجمهورية، إذا كانت ستكون هي بلسم التعليم اليوم، فإنها طرحت كفكرة سنة 2015، لكن ولأنه لم تكن هناك إرادة في إعادة التجارب الفاشلة والإصلاحات الإرتجالية التي لا مقومات تواكبها وتسندها على الأرض، فإنه تمت دراسة متطلبات تطبيق هذه الفكرة من حيث العدد اللازم لها من الحجرات المدرسية، ومن الطواقم التدريسية والتأطيرية، ووُجد أن كل ذلك لا يتوفر منه بعد ما يكفي للوصول للأهداف المرجوة من هذه المقاربة، فتم تأجيلها مع مباشرة وضع لوازمها من بنية تحتية مادية وبشرية، وحتى اليوم لا زال من غير الممكن ولا العملي اعتمادها في كافة أقسام التعليم الأساسي مرة واحدة، مما جعل الحكومة تقرر أنه سيتم اعتمادها تدريجيا بواقع التقدم في تطبيقها قسما كل سنة دراسية.. فلنعرف إذن من نحن، وفي أي مستوى وأية مرحلة، وماذا نريد، و ماهي متطلبات ومقومات ما نريده، ولنخفف أيضا، لا قليلا بل كثيرا، من ارتهان التعليم لأجنداتنا السياسية واتخاذه رافدا ومادة لعنترياتنا سياسيا.

 

يعتقد من يقولون بتدهور قطاع الصحة في بلادنا أنهم أبدعوا حين وصفوا الطائرات القادمة من بلادنا خلال العشرية الأخيرة بأنها " طائرات إسعاف "، ولكنهم بذلك يمتدحون هذه العشرية من حيث لا يشعرون، ولو أنهم تنبهوا قليلا لما أبدعوا تلك الدعاية.. إذ ما الذي كان يجعل مرضانا يتعالجون داخل البلاد ولا يلجؤون للعلاج خارجيا؟ هل هي المستشفيات المتخصصة والمتطورة التي كانت قائمة قبل هذه العشرية وتم إغلاقها؟ أم ألئك الأخصائيين المهرة الذين كانوا يعالجون في هذه المستشفيات قبل هذه العشرية وتم تسريحهم؟ أم سياسات العلاج المجاني التي كانت قائمة وألغيت؟! لا شيء من هذا ولا ذاك ولا ذلك، وما حصل فقط هو أنه بدأ تشكل طبقة وسطى من المجتمع خلال هذه السنوات، وتحسنت أوضاع ومداخيل الناس وأصبحوا قادرين على مصاريف العلاج خارج البلاد، فلا تذاكر هذه الطائرات مجانية، ولا تكاليف الإقامة والعلاج في تلك البلدان مجانية كذلك..

 

وإذا كان من يسافرون من مرضانا للعلاج خارج البلاد بالمئات، فلماذا نغفل ونتجاهل الآلاف من المراجعين لمستشفياتنا يوميا والذين يتعالجون ويخضعون للعمليات الجراحية فيتعافون ويعودون إلى بيوتهم، أو نتجاهل أن الكثيرين من المتعالجين خارج البلاد يعودون، وللأسف، في التوابيت أو يعودون ميؤوس من حالاتهم! نعم، لقد تدهور قطاعنا الصحي إلى الحضيض، ولكنه تدهور وتردى وتسيَّب وفقد أدنى حدود الثقة والمصداقية قبل هذه العشرية، كالكثير غيره مما تدهور وتردى وتسيَّب وانهار قبلها، وقد نهض من جديد وقليل مما تبقى منه بعد انهياره كان صالحا للبناء عليه، والمعروف أن البناء على الأنقاض يتطلب وقتا وجهدا لإزالة الحطام، المادي منه والنفسي.. وقد سمعت بأذني شهر مايو الماضي مدير المستشفى الجامعي في داكار أخصائي أمراض القلب البرفوسير عبدول كان في مقابلة مع إذاعة RFI حول الصحة في إفريقيا، وانقل هنا كلامه حرفيا وهو يشيد بواقع الصحة في موريتانيا، ويقول إنها من  الدول التي تحقق تقدما حقيقيا في مجال الصحة، مضيفا أن موريتانيا فهمت مبكرا أهمية الاستثمار في قطاع الصحة وحققت خلال العشرية الأخيرة تقدما كبيرا على مستوى تشييد وتجهيز المستشفيات وتكوين مهنيي الصحة محليا، معتبرا أن مستشفيات موريتانيا المتخصصة ستكون جزء من الحل الجهوي وملاذا لمرضى منطقتي الساحل وغرب إفريقيا.

 

ولا شك أنكم سمعتم وزيرة الصحة السنغالية قبله وهي تنوه بالاستراتيجية الصحية في موريتانيا وتلوم بلدها على التقاعس عن انتهاج مثل هذه الاستراتيجية.. ولكن لننتظر السياسات والاستراتيجيات حتى تنضج وتوتي ثمارها، لأن الاستراتيجيات والسياسات التنموية عموما لا تسير بسرعة مراكبنا السياسية.. خصوصا في قطاع منطلق من لا شيء، ولا ينبغي أن يستفزنا صياح الدعائيين اليوم ليُربكونا أو يُحيِدونا عن مواصلة استراتيجياتنا التي ليس لديهم ما يُحِلونه محلها غير الصراخ والتشويش والدعاية والتشكيك. 

محمدو ولد البخاري عابدين

جمعة, 20/09/2019 - 13:05