
أن تهتدي في الليل، ممتطيًا جوادك، وسط وادٍ تظللّه النخيل، لم يكن تحديًا بالنسبة لمقاتلي الصحراء من بني حسان. بل كان ذلك جزءًا من عاداتهم.
خطاهم لم تكن تعرف التردد أو الخوف. وعندما ينزلون عن ظهور خيولهم، كانوا يقودونها من لجامها، يمشون أمامها لتهدئتها عند أول نذير خطر.
في عتمة الليل الحالكة، كانت أفعى صغيرة خارجة من الرمل كافية لترويع حصانٍ وتدمير عنصر المفاجأة.
كانت فتحات القمر القليلة، المترددة، تتسلل بين الغيوم ورؤوس الأشجار، تكفي بالكاد للحفاظ على الاتجاه الصحيح.
وفي صمت الليل الثقيل، كانت رائحة الدخان تفضح وجود معسكر… الجيش.
أولئك الحمقى، أشعلوا نارًا هنا، في أرض تملؤها قبائل مسلحة، شرسة، ترفض أي شكل من أشكال الاحتلال.
كان لا بد من تفاديهم. فالفرنسيون طوّقوا المنطقة بدوريات، مصممين على منع آخر قبيلة متمردة من الإفلات من الهزيمة.
لكنّ الزعيم العجوز — الكفيف منذ سنوات — كان يرى أوضح من الجميع.
ولَداه، الناجيان من بطش المعارك، كانا يعلمان ذلك.
دلّهما على معبرٍ لا يخطر للعدو في بال، يمرّ تحت أنوف المستعمرين دون أن ينتبهوا.
ذلك النوع من المعرفة، لا يُدرس في الأكاديميات العسكرية.
الفرنسيون تعلّموا الحرب على مقاعد الدراسة؛ أما المور، فتعلموها على شواهد القبور.
الصراعات الداخلية، التي بالكاد غطاها ستار التضامن الذي وُلد من رحم المقاومة، كانت قد حصدت أرواح المئات.
أحيانًا، كان أبناء العمومة يتقاتلون.
ففي موريتانيا، لا يُختار القتال… بل يُولد معك.
بالكرامة نحيا.
وبالقبيلة نموت.
الكرامة لا تُفاوض.
والفخر لا يُباع.
في تلك المسيرة الليلية، حتى النساء والأطفال كانوا يسيرون في صمتٍ مطبق، بلا تذمر، بلا خطوة متعثرة.
كان الرمل، الذي لا يزال دافئًا من شمس النهار، يحمل آثار أقدامهم نحو البئر، هناك، في أقصى بساتين النخيل.
الماء كان مخصصًا للجرحى، الذين عُولجوا بحذر لكتم آهاتهم.
فصرخة واحدة، أو صوت مرتفع… كانت كفيلة بإفناء الجميع.
ذلك التسلل الصامت، المحفوف بالمخاطر، كان عليهم أن يقطعوا به ما يكفي من المسافة، ليأخذوا استراحة قصيرة، يملأوا القرب، يسقوا الخيول، ثم يتلاشوا في ظلام الليل.
انتظار موسم الحصاد الشتوي، كما اقترح الحُسَين، كان ربما خيارًا أكثر حكمة.
لكن الحكمة لا تُشبع قبيلة جائعة.
ومنذ أن تمّت البيعة في الزاوية، تبدّلت الأمور.
التحالفات انهارت.
البنادق ذات الخمس طلقات، التبغ، والأرز… اشترت بعض الزعماء.
وساحات القبائل امتلأت بالخونة المتخمين.
لم يعد أحد يُنصت لأولئك الذين ما زالوا يحملون بنادق المقاومة العتيقة.
فقط، بعض القبائل الملاحَقة، كانت لا تزال صامدة. تضرب بعنف، دون أن تنطق بكلمة “استسلام”.
ذلك الغدر، وذلك الصمت المشوب بالاحتقار، كان يثقل صدور الشيوخ.
سيأتي يوم، يُجرد فيه هؤلاء من سلاحهم، ويُقطع لسانهم.
لكن، طالما بقي نفس في الصدور،
وطالما سارت خيولهم دون أن تحدث جلبة في أودية الظلام،
وطالما بقي شيخٌ كفيف يهدي أبناءه عبر أفخاخ التاريخ…
فالمعركة لن تنتهي.
المعركة التي وُلدوا من أجلها.
سيد أحمد شين
من مقالة: بنادق المقاومة