رهانات السوسيولوجيا الموريتانية

طلب مني زملاء مولعون بحسن الظن من منتدى السوسيولوجيين الموريتانيين أن أساهم معهم بورقة في ندوة  بعنوان " السوسيولوجيا بموريتانيا المعوقات والفرص"

ورغم أنني سأكون متطفلا إن لم أكن متطاولا وأنا أسمح لنفسي بالحديث أمام هذا الجمع الكريم من أساتذة وباحثين لهم شرف السابقة والميدان، بينما حبسني حابس الفيل منذ بعض الوقت وشغلتني دهاليز الإدارة والتسيير كما قال الناظم:

 شغلت بالنحو وبالبيان

 وإن هذان لساحران

وقبل أن أدخل الموضوع أرجو من الجمع الكريم قراءة الفاتحة ترحما على روح فارس من فرسان السوسيولوجيا الموريتانية، ما كان له أن يتخلف عن هذا الموعد لولا أنه انتقل إلى العالم الآخر، أخي وزميلي الأستاذ الباحث محمد ولد احميادة رحمه الله..

قبل عشرين عاما ومع بداية الألفية الثالثة كان على العبد الفقير أن يختار عنوانا لمجموعة من المقالات والبحوث التي تم نشر معظمها خلال التسعينيات في الصحف الوطنية، قرر أن يجمعها في كناش أو كتيب مطبوع طباعة بدائية، ووقع الاختيار على عنوان أقدم المقالات "المجتمع الفضفاض" وكان العنوان الفرعي "ملاحظات سوسيو نقدية حول المرأة، والسلطة، والثقافة في المجتمع الموريتاني المعاصر"، أما العنوان العريض الذي جاء في المقدمة فقد كان طموحا "من أجل علم اجتماع موريتاني نقدي"

لقد كانت الفكرة الأساسية في الكتاب والهم الرئيس للمؤلف هو أن يطلق مجموعة من الفرضيات والملاحظات للملمة شتات البحوث الميدانية والكتابات المتفرقة حول المجتمع الموريتاني، لتقديم ما أسماه عالم الاجتماع الأمريكي الكبير"رايت ميلز" "خيالا سوسيولوجيا" يساهم في إنارة الرأي العام حول القضايا التي تشغله اعتمادا على الأطر النظرية التي قدمها الرواد..

لقد حاولنا خلال تلك الفترة أن نوجه السجال حول تصنيف العائلة الموريتانية ما بين "الأبوية" ورواسب "الأمومية الصنهاجية" للوصول إلى نمط العائلة "مركزية الأم" التي يطبعها شيوع الطلاق رغم ارتفاع مكانة المرأة نسبيا، كما ساهمنا في السجال الذي أطلقه رائد السوسيولوجيا الموريتانية المعاصرة الدكتور عبد الودود ولد الشيخ حول القبيلة والسلطة، خلال انحيازه الشهير للأطروحة الخلدونية ردا على النظريات الانقسامية التقليدية وتفسيره لدور المخيال الديني في تأسيس مجال الإمارة كسلطة فوق قبلية في المجتمع القديم، وحاولنا محاورته حول تصنيف نمط السلطة القائم في البلاد منذ الاستقلال بين التقاليد السلطانية كما يسميها "ماكس فيبر" و"فتفوجل" في ظل الدولة الريعية التي اعتبرها هبة المساعدات الدولية، واخترنا أن "المخيال السياسي الموريتاني" الذي جذرته ثقافة المحظرة والطرق الصوفية ونمط إنتاج الغنيمة هو أقرب إلى مقولات العقل السياسي العربي في تحليل العلاقة بين ثلاثي؛ القبيلة، والغنيمة، والعقيدة، كما يسميه محمد عابد الجابري، وخرجنا بأن  المخيال السياسي والديني الموريتاني أكثر انفتاحا على التغيير من النظرة المتشائمة لعميد السوسيولوجيا الموريتانية.

 وفيما يتعلق بالقيم الثقافية في المجتمع الموريتاني رصدنا مرحلة التحول، وتضارب المنظومات الأخلاقية التي سميناها بحالة "الفضفضة" لمجتمع أصبح ثوبه القديم غير ملائم، ولم يتمكن بعد من تفصيل ثوبه الجديد.

لقد نظم رواد السوسيولوجيا الموريتانية المعاصرة ندوة هامة سنة 2010 بمناسبة خمسينية الاستقلال الوطني، أشرف عليها أستاذنا عبد الودود ولد الشيخ، وشارك فيها كل من "د شاسي" والراحل "بيير بونت"، وتم نشر أعمالها باللغة الفرنسية، وكما تعلمون فإن أهم الأعمال السوسيولوجية لهؤلاء الرواد  لم تصل بعد إلى قراء العربية فيما عدا الجهود الكبيرة والمقدرة للدكتور محمد ولد بواعليبه الذي ترجم بعض الكتب الهامة لكل من "د شاسي" و"بيير بونت" وآخرين..

واذا أردنا أن نرسم خطاطة عامة لوضعية البحث السوسيولوجي حول المجتمع الموريتاني يمكننا أن نقول إن الإسهامات الكبرى ركزت على سوسيولوجيا التاريخ و محاولة تفسير نشأة المجتمع الموريتاني التقليدي، وهنا تركزت أعمال كل من عبد الودود ولد الشيخ، وبيير بونت الذي قدم دراسة انتربولوجية نادرة لروايات الأصول البيظانية، وصف فيها بجهد موسوعي تحولات الأنساب والبنيات القرابية في المجتمع منذ انهيار المجال السوداني وطريق "الذهب والملح" بعد سقوط تمبكتو بيد السعديين نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وتبلور العصر الحساني الذي يمكن وصف "نحلة معاشه" الأساسية حسب المصطلح الخلدوني أو "نمط انتاجه" بالمفهوم الماركسي بأنه عصر "العلك والخنط" والمبادلات عبر الشواطئ.

ولعل أهم إضاءة سوسيولوجية حول المجتمع الموريتاني المعاصر هي أطروحة "دي شاسيه" "المجتمع الموريتاني من 1900 الى1975 " وقد حاول فيها اعتمادا على المقاربة الماركسية وصف تأثير الإدارة الاستعمارية، والرأسمالية العالمية، ودولة الاستقلال، في التحولات التي عرفتها السلطة السياسية وصولا إلى تشكل طبقة حاكمة يلعب فيها الإداريون، والزعامات التقليدية، وكبار التجار دورا بارزا، كما وصف بشكل عميق صراع المدرسة والمحظرة، وجدال التعريب والفرنسة، والتوترات العرقية وإشكاليات الهوية التي توظف في منافسات النخبة السياسية.

وقد وضحت في كتاب "المجتمع الفضفاض" أن أكبر تغير عميق عرفته بنية المجتمع الموريتاني التقليدي كان تحت تأثير ضربة جفاف السبعينيات، فقد انتهى عهد التجاور الغزلي بين الإدارة والقبيلة (عصر الحصرات)، وهجر الناس البوادي إلى "مدن متريفة اومتبدية"، وبدأ العهد الطويل لتراجيديا الكبات والكزرات، وانهارت التقاليد العبودية، لقد لجأ المجتمع التقليدي إلى دولة لم تكن مستعدة، وتنامت الهجرة منذ الثمانينيات في "تغريبة موريتانية" جديدة خلدتها رائعة الشاعر الكبير "أحمدو ولد عبد القادر" "السفين":

 رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون

 وها نحن نبحر

 كما كان أجدادنا يبحرون..

ومنذ بداية الألفية الثالثة عرف المجتمع الموريتاني منعطفا جديدا مع تنامي العولمة، مثله في ذلك مثل غيره من مجتمعات العالم، فطوفان الصور والأفكار الجديدة، ودخول الهواتف الذكية، ووسائط التواصل الاجتماعي، حيث الواتساب ملائم ل"مجتمع اشطاري".. كلها تحولات تطرح رهانات حقيقية على السوسيولوجيا الموريتانية..

وقد عرضت الباحثة "سلين لزورد" في ندوة خمسينية الاستقلال مثلا لتحولات الموضة في الطبقة الارستقراطية للمجتمع بين التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، ما بين ثقافة "التشعشيع والترف الباذح"  وما سمته "الأغنياء الأتقياء" وهي ما يلقبه عبد الودود ول الشيخ بظاهرة "الطلبنة" في الحواضر، والمظاهر السلفية والتنافس في المظهر الديني، ومنبهات الأذكار والأدعية في التلفونات، وعمرة رمضان...وهو ما لمسناه في المقابل من تعلق فئات اجتماعية مهمشة في الإقبال على أشرطة الوعظ الديني، وكاسيتات الموسيقى الكلاسيكية لسدوم وديمي لدى فئة "الغسالين" مثلا، في حراك ثقافي لامتلاك الرأسمال الرمزي كما يسميه "بورديه" سعيا لتسنم مكانة أفضل في سلم القيم الاجتماعية السائدة..

ولقد شارك العبد الفقير في العديد من الدراسات الميدانية حول العنف ضد المرأة، وعمالة الأطفال، وسوسيولوجة المرض، وغيرها من الموضوعات المتنوعة، ونشر المكتب الوطني للإحصاء  بيانات وافرة عبر الإحصاء العام للسكان والمساكن، والمسح المعيشي للأسر، كما تنشر المنظمات الدولية مثل اليونسيف، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، ومنظمة الصحة العالمية ،دراسات انتروبولوجية واجتماعية حول إشكاليات عديدة، ولكن كل ذلك تهيمن عليه الأغراض العملية الإجرائية، وينقصه الخيال السوسيولوجي الضروري لإعطائه دلالة علمية..

إن التحدي الكبير والرهان الأول أمام السوسيولوجيا الموريتانية مثل السوسيولوجيا في العالم، هو وفرة البيانات الإحصائية والمعلومات "الأمبريقية"، وضعف الأطر النظرية والفقر في الفرضيات الخصبة التي تعطي للبحث العلمي دلالته كما يقول "كارل بوبر".

وأعتقد أن الوسط الأكاديمي ونادي السوسيولوجيين الموريتانيين بالأخص مطالب بوضع خارطة طريق مشتركة لأهم المجالات البحثية التي تجيب على الأسئلة الملحة لمجتمع غزته الثورة الرقمية، وتتنامى فيه ظواهر الجريمة والانحراف والغلو، وتضغط فيه البنيات التقليدية على الإدارة محدثة شقوقا بارزة في البناء الاجتماعي..

 وحتى لا أكون متشائما أؤكد هنا أن تاريخ المجتمع الموريتاني كان دليلا على القدرة على التكيف مع التغيرات، وتجاوز الهزات العنيفة، ولعلها "البركة" بلغتنا نحن المسلمين، أو حيوية النسق الاجتماعي في ابتلاع التوترات بل تحويلها إلى مسارات مفيدة بلغة "تالكوت بارسونز"، ولكن الدور التأطيري للمجتمع الأكاديمي ما زال ضعيفا في مواكبة استحقاقات المرحلة، ولعل هذه البداية أن تكون فأل خير..

 وفقكم الله جميعا وأشكركم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...

جمعة, 28/05/2021 - 23:57