في ذكرى انهيار الاتحاد

في مثل هذا اليوم  قبل ثلاثين عاما أي 26  دجمبر 1991 صعق العالم أجمع جراء سقوط الإتحاد السوفيتي ، تم إنزال علم البلاشفة بمطرقته ومنجله الصفراوين ولونه الأحمر القاني  ، واستبداله بعلم روسيا الاتحادية الحالي في جو من الدهشة والحيرة لدى جل سكان جمهوريات الاتحاد السوفيتي والعالم أجمع .

في الثالث من يناير من العام 1993 وهو يتجول في الساحة الحمراء قرب ضريح لينين الذي يرقد فيه جسده المحنط منذ وفاته سنة 1924 قال بوش الأب  (لم نتوقع أن ينهار بهذه السرعة) .

انهار الاتحاد السوفيتي إذن بجبروته وقوته كأحجار الدومينو ، وسقطت معه أحلام أمم وشعوب طالما رأت فيه عونا وسندا ، واختلت لعبة التوازنات الدولية ، ووقع العالم بأسره تحت قبضة الهيمنة الآمريكية المطلقة التي بادرت بنشر فيروس الكذب والتضليل العالمي .

تنفس أحفاد رعاة البقر الصعداء أشعلوا الحروب ، ونصبوا الفخاخ ، فككوا دولا ، وقاموا بثورات ملونة ، وتم اضطهاد الكثير من شعوب العالم وعلى رأسهم العرب والمسلمون باسم نشر حلم الديمقراطية  والتأسيس للحريات.

كان المصير البائس اليائس للإتحاد السوفيتي نتيجة العديد من التراكمات ؛ لعل أبرزها شيخوخة المؤسسات وترهلها نتيجة آفة الفساد المستشري ، وسوء الإدارة ، وتردي الوضع المعيشي للسكان ، وتدني قيمة العملة الروبل وانهيار أسعار النفط  ، وانتشار ما سمي حينها بعملاء النفوذ (الجواسيس الجدد) ، وضعف  بل فساد عجائز الحزب الشيوعي السوفيتي الغارقون في منادمة الفودكا وتحت أقدامهم كانت تجري مياه كثيرة بما لا يشتهون ، حقا تلاشت بين شعوب الاتحاد نتيجة تصرفات الطغمة الحاكمة الثقة في عدالة النظام الاشتراكي ، رغم مجانية التعليم والصحة ، وزهد تكاليف الإيجار والنقل.

لعل السقوط الحقيقي للاتحاد السوفيتي كان قبل سقوطه الفعلي أي في أغسطص من عام  1991 ، حيث اندلعت أحداث ما بات يعرف بالأيام الثلاث ، لقد سعت حفنة من العسكريين المغامرين لتلافي الوضع لكن الأمور كانت قد خرجت عن السيطرة ، ولا أحد يعرف على وجه اليقين إلى اليوم على حد علمي إن كانوا فعلا عقدوا العزم على ذلك بصرامة وجدية فعلا ، أم أن الأمر لا يعدو حركة عشوائية في حمى التخبط .

لقد تابع العالم يومها على الشاشات وبالعرض السريع انهيار الاتحاد ، بعد فشل محاولة انقلاب لجنة الطوارئ العبثية رغم أن البعض من المشاركين فيها لا يمكن إلا أن يكونوا صادقين في مسعاهم نتيجة هالة العظمة وشرف ماضيهم النضالي والعسكري.

لقد خلد التاريخ تراجع الفرق العسكرية الخاصة عن اقتحام مجلس السوفييت نتيجة للطوابير البشرية التي تحميه ، بل إن وزير الدفاع المارشال ديميتري يازوف بطل الاتحاد السوفيتي والحامل على صدره عشرات الأوسمة لمآثره الخالدة في الحرب على النازية  حين شاهد بأم عينيه الحشود تحيط بأبواب وأسوار وجنبات مبنى مجلس السوفييت مشكلة جدارا بشريا أعطى الأوامر بالانسحاب الفوري لكافة القطعات العسكرية من موسكو ولينينغراد دون الرجوع للجنة الطوارئ ، وقدم استقالته  لاحقا للجنة  قائلا: (خدمت بلادي وحاربت العدو ولست مستعدا لتوجيه الرصاص ضد الشعب) .

انتحر وزير الداخلية قبل إلقاء القبض عليه ، بطل الاتحاد السوفيتي صاحب أرفع الأوسمة والميداليات المارشال سيرغي أخرومييف رئيس الأركان صوب مسدسه إلى رأسه ووضع حدا لحياته حتى لا يرى بأم عينيه المصير المشؤوم الذي تتدحرج إليه أمته التي وهبها حياته وروحه .

اليوم في ذكرى انهيار هذا الاتحاد الكبير علينا أن نتذكر الدعم اللا محدود من قبل السوفييت للعرب إبان أحلك الظروف في صراعهم مع الصهاينة وخاصة بعد هزيمة يونيو 1967  الأليمة والمذله ، أي منذ بداية حرب الاستنزاف وحتى حرب أكتوبر المجيده 1973.

 لقد أظهرت بعض وثائق الأرشيف البريطاني مؤخرا أن حجم هذا الدعم فاق كل التصورات ، ولعل الكثير منا لا يعلم أن الجنرال والمستشار السوفيتي فاسيليوفيتش هو من أوصى بيوم "كيبور" باعتباره أفضل وقت للهجوم لضمان المفاجأة ، باعتبار هذا اليوم يوم صوم وتأمل عند اليهود وتظل فيه أجهزة المذياع مغلقه .

تقول الوثائق البريطانية إنه بداية من مساء 11 أكتوبر وصلت سفن الشحن السوفيتية بمواد حربيه من مدينة أوديسا الأوكرانيه إلى ميناء اللاذقية بعد اندلاع الحرب بخمسة أيام ، ما يتضح منه أن السوفييت على علم مسبق بتوقيت الحرب.

إجمالا وصلت حوالي 50 سفينه شحن لموانئ اللاذقية وطرطوس والاسكندرية بين أيام 10-11 وحتى 21 أكتوبر بحمولات من الذخيرة والعتاد ، فضلا عن الدعم الجوي بالطيران الحربي والمدني ، فبين أيام 6 و 21 أكتوبر 1973 هبطت 296 طائره شحن في مصر تحمل الأسلحه ، ولمدة شهر بقي أسطول جوي مفتوح بين سوريا والاتحاد السوفيتي من خلال 900 رحلة طيران للإمداد العسكري.

حلف الناتو في تحليله لنتائج الحرب ـ والعهدة على بي بي سي ـ يرى أن وحدات من المجر وتشيكوسلوفاكيا بل وحتى وحدات من الجيش السوفيتي من وسط أوربا نقلت بكامل عتادها إلى مسرح العمليات في الشرق الأوسط ، مثل وحدات صواريخ سام ، ومواقع رادارات ، والقائمة تطول .

لقد أثبت هذا الاتحاد على مدى فترات عديدة أنه صديق حقيقي للعرب وحليف استيراتيجي رغم الفوارق الإيديولوجية ، وبانهياره خسر العرب سندا مهما على المسرح الدولي ، ووقعوا في مطبات ومزالق ما زالوا يتخبطون في أغلبها إلى اليوم مع الأسف.

صحيح أن عدونا صار أقوى وقل سندنا ، ولكن قضيتنا الأم (فلسطين) تجمعنا ، وهي قضية شابة لا تهرم ولا تشيخ ولا يمكن أن تنسى ، وإيماننا الراسخ بها جزء من عقيدتنا الدينيه وشعورنا العاطفي والقومي .

 

محمد محمود إسلم عبد الله

أحد, 26/12/2021 - 23:00