المدرسة الجمهورية : جِسْر لِلْعٌبٌور نحو المساواة وإصلاح التعليم 

تظْهِرٌ المكاسب الاجتماعية والبيداغوجية التي تحققت منذ العمل على دعم مشروع المدرسة الجمهورية أن الطريق إلى تعزيز المساواة بين التلاميذ  الموريتانيين وإصلاح التعليم الأساسي والثانوي تبدأ بالاستغناء النهائي عن مدارس الامتياز الابتدائية والمٌضِيِّ قٌدٌمًا في مسار الإصلاح التعليمي ودعم استقلال القرار التربوي عن القرار السياسي . فمع بداية كل سنة دراسية جديدة يٌفَاجَأ  التلاميذ ووكلائهم  بالإعلان عن سياسات وتوجيهات تربوية جديدة  تهدف في الغالب إلى التَكَيٌفِ مع عقلية المجتمع ومواكبة تطلعات الرأي العام الذي يميل في الغالب إلى تفضيل الحلول السحرية كلما تعلق الأمر بالحديث عن تحسين  ظروف وجودة التعليم عموما والتعليم ما قبل الجامعي خصوصا ، ولكن هذه السياسات التربوية الجديدة  تٌرْبِكٌ الخطط التربوية الموضوعة سلفا وتٌشَتِتٌ الجهود التي يبذلها التربويون على مستوى تنفيذ ومتابعة وتقييم الإصلاحات التعليمية  التي تَمَتْالمصادقة على انجازها في آجالها المحددة . وليس أدل على ذلك من الجدل السياسي والتربوي الأخير حول السماح لأبناء الطبقات الاجتماعية الهشة المٌقَيَدَة على السجل الاجتماعي" لتآزر" من الالتحاق المجاني المباشر بالمرحلتين الإعدادية والثانوية من مدارس الامتياز. 

لا شك أن الإصلاحات التعليمية بحاجة إلى قرارات سياسية جادة تدعمها وتراقب مراحل تنفيذها خطوة بخطوة إلا أن عمليات الإصلاح التربوي لا تتقدم في ظروف يَطبعٌها الارتجال والانتقائية والاستعجال ، لأن الإصلاح التعليمي لا يتوقف على قرار فردي وإنما هو نتيجة لعمل جماعي يأخذ بعين الاعتبار مجموعة من الاستراتيجيات والاعتبارات الزمنية والبيداغوجية  والمادية والبشرية ، هي الكفيلة وَحْدَهَا بتحديد متى وكيف وإلى أي حد سيتحقق هذا الإصلاح . لقد حَدَدَ تقرير الصياغة العامة المنبثق عن  المشاورات الوطنية حول إصلاح النظام التربوي المنظمة في الفترة من 16 إلى 20 نوفمبر 2021 نموذج المدرسة التي يريد الموريتانيون لأبنائهم وأجيالهم المستقبلية ، وهذه المدرسة هي المدرسة الجمهورية التي " ستتيح توحيدا مستداما لنظامنا التربوي على قواعد صلبة ... مدرسة جامعة تمثل بوتقة مٌوَّحَدَة يجد فيها كل الموريتانيين ذواتهم، على تنوعهم الثقافي " . وانطلاقا من هذا المٌنْعَطَف الإصلاحي المٌتَمَرْكِز حول نموذج المدرسة الجمهورية القائمة على دعائم الإنصاف وترقية المواطنة وجودة كفاءة الموارد البشرية  فإن ضبط مسار عملية إصلاح التعليم ما قبل الجامعي يفرض علينا اعتماد مقاربة مٌتَمَحْوِرَةحول النتائج (Une Approche Axée sur Les Résultats  )  تأخذ بعين الاعتبار تنفيذ الخطوات التالية : 

- تَحْوِيلٌ كافة مدارس الامتياز الابتدائية إلى مدارس جمهورية 

- تعميم إجبارية الولوج إلى المدرسة الجمهورية كمدرسة للمساواة والإعداد الفكري والمَهَارِي لجميع التلاميذ 

- حَصْرٌ دخول المرحلة الإعدادية والثانوية من مدارس الامتياز على فئة التلاميذ الناجحين في مسابقة دخول هذه المؤسسات التعليمية 

- دعم وترقية التعليم  الإعدادي والثانوي العام ، الفني والمهني . 

يَفْتَرِضٌ إصلاح التعليم الأساسي  وجود نموذج مدرسة جمهورية ابتدائية واحدة يتلقى فيها جميع التلاميذ من كل فئات المجتمع نفس المعارف ونفس المهارات مع تقديم الدعم المادي والتربوي اللازم ليس فقط لفئات التلاميذ المنحدرين من أوساط هشة اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ولكن أيضا دعم المؤسسات المدرسية التي تجمع عددًا كبيرًا من هذه الفئة من التلاميذ مع دعوة إدَارَةِ هذه المدارس إلى تكييف مشروعهم التعليمي مع خصائص مجتمع المدرسة . هذه المدرسة الجمهورية المٌلْتَزِمَة بتحقيق غايات التربية الثلاث (التعليم، والتنشئة، والتأهيل( ستكون الأرضية العادلة والمٌنْصِفَة التي سَتَظْهَرٌ في كَنَفِهَا كفايات التلاميذ ومهاراتهم وقدراتهم على الالتحاق المٌسْتَحَق بالمرحلة الإعدادية والثانوية من مدارس الامتياز أو مواصلة مسارهم التعليمي على مستوى التعليم الإعدادي والثانوي العام ، الفني والمهني . بمعنى أن المدرسة الجمهورية ستٌقَدِمٌ لتلاميذها منهاجا دراسيا ( Un Curriculum Scolaire ) مٌوَحَدًا يسمح بسهولة بتمييز المتفوقين والتوجه نحو الخيارات الأضعف للتلاميذ الأقل كفاءة. وبالتالي في الوقت الذي تَحْرِصٌ  المدرسة الجمهورية على تمكين كل التلاميذ  من نفس التكوين المعرفي والسلوكي والمَهَاري فإنها تفتح أمامهم الطريق  للكشف عن مواهبهم وتوجهاتهم المستقبلية بشكل مستقل عن أصلهم الاجتماعي .وهذا ما يعني أن نجاح مرحلة ما بعد التعليم الأساسي في ضوء نموذج المدرسة الجمهورية يشكل مهمة مشتركة بين الأسرة والمدرسة والإدارة التربوية بحيث يٌنْظَرٌ إلى مرحلة دخول مؤسسات التعليم الإعدادي والثانوي من زاوية الأهلية والكفاءة والفروق الفردية ( المعرفية والمَهَارِيَة ) بين التلاميذ . وبالنظر إلى أن نموذج المدرسة الجمهورية مٌطَالَب بإعطاء الغالبية العظمى من التلاميذ الإمكانات والمواهب اللازمة للنجاح الدراسي، فإن تنمية المواهب تكون في هذه الحالة نتيجة للجهد المبذول في التعلم. بمعنى آخر، يعتمد النجاح التعليمي –التَعَلٌمِي أيضا على "مشاركة " التلميذ في أنشطة التعلم ولا يمكن لطاقم التدريس أو الإدارة المدرسية ضمان التميز المعرفي والنجاح المتساوي للجميع نظرًا لتنوع الجهود التي يستثمرها التلاميذ . وعلى هذا الأساس تكون المدرسة الجمهورية مدرسة تكافؤ الفرص والمساواة ، مدرسة ليس فيها إقصاء أو تمييز إيجابي يعيد إنتاج اللامساواة في أشكال أخرى . إن المصير التعليمي المستقبلي للتلاميذ في هذه المدرسة يتوقف على جودة مخرجاتها التي ينبغي أن تٌحَدِدْ وحدها قدرة هذا التلميذ أو ذاك على تجاوز مسابقة دخول مدارس الامتياز الإعدادية والثانوية أو الالتحاق بغيرها من مؤسسات التعليم ما قبل الجامعي  (التعليم العام ،  الفني ،  المهني ) .  

إن المٌرَاهَنَةَ على إعداد  أجيال كاملة من التلاميذ المتميزين طموح مشروع وغاية نبيلة يسعى إلى تحقيقها كل المهتمين بإصلاح التعليم ، ولكن منطق الموضوعية والواقعية والبرغماتية العملية يٌرْشِدٌنَا إلى أن الاختلاف وتنوع جودة التخصصات المعرفية والخبرات الفنية والمهنية لدى تلاميذ اليوم ، عمال المستقبل   سبب للتعاون بين أفراد المجتمع والنهوض به في مختلف المجالات لأن : " الدنيا لم تكن قَطٌ لجميع أهلها مٌسْعِدَةً ، ولا عن كافة ذَوِيهَا مٌعْرِضَة ، لأن إعراضها عن جميعهم عَطَبٌ وإسعادها لكافتهم فَسَادٌ لائتلافهم بالاختلاف والتباين ، واتفاقهم بالمساعدة والتعاون . فإذا تساوى حينئذ جميعهم لم يجد أحدهم إلى الاستعانة بغيره سبيلا، وبهم من الحاجة والعجز ما وصفنا ، فيذهبوا حينئذ ضَيْعَةً ويَهْلكٌوا عجزا . وإذا تباينوا واختلفوا صاروا مٌؤتَلِفِينَ بالمَعٌونَةِ متواصلين بالحاجة ، لأن ذا الحاجة وَصٌول والمٌحْتَاجٌ إليه مَوْصٌول " ( الماوردي ) .  

 

الدكتور / سيدي محمد يب أحمد معلوم 

أكاديمي وخبير دولي في إدارة عمليات الاكتتاب والمسابقات 

 

ثلاثاء, 26/09/2023 - 11:02