الغربُ وشعار فلسطين حرة

تخلق الأحداث الصادمة في استمراريتها، والمفاجئة في أساليبها وعياً جماعياً يتميز،في غالب الأحيان، بردات أفعال تلقائية تتحول مع الوقت إلى فعل ناضج يسعى للتغيير بأساليب رصينة وهادفة، وهذا الأمر ينطبق على الشعار الأكثر تداولا في الآونة الأخيرة في أوساط الجامعات الغربية   Free Palestine، لاسيما الأمريكية العريقة منها مثل جامعة أكسفورد وجامعة كولومبيا، وتُعد ظاهرة الحراك الطلابي في الجامعات الغربية نموذجاً حياًلهذا التوجه الجديد، ففي الولايات المتحدة وكندا ثمة ما يُسمى بـــ: SJP أو طلاب من أجل العدالة في فلسطين، وفي المملكة المتحدة توجد نماذج متعددةلهذا الحراك الطلابي مثل BRICUP الجنة البريطانية للجامعات من أجل فلسطين...

والظاهر أن هذا الشعار انتقل  للبرلمانات الأوروبية فلا يكاد يخلو نقاش داخلها من التعاطف القوي مع فلسطين مرددين الشعار ذاته وبالإيقاع نفسه، ويبدو أن الساسة في الغرب لم يدركوا بعد أن هذا الشعار خلق قطيعة إبستمولوجية بين الأجيال، ففي الوقت الذي يصر فيه قادة اليوم في الغرب على دعم غير محدود لإسرائيل، يظهر جيل جديد له رأي مخالف تماما، يتناغم مع التوجه العام الذي يجتاح القارة العجوز، وأمريكا الشمالية، والمفارقة أن ثمة ميولاً  للعداوة للدولة العبرية  بدأ يظهر للعن  في الأوساط الشابة وفي الطبقات المتوسطة عموماً مدفوع باستمرارية ووحشية العدوان على غزة.

المثير للاستغراب هو أن مراكز الدراسات الإستراتيجية في الغرب مازالتتتجاهل هذا التوجه الجديد الذي عم شوارع ومدناً كبرى في أمريكا وبلدان أوروبية عريقة، وانتشر في العالَمين  الافتراضي والواقعي، فخلال عشر سنوات فقط ستصل نخب هذا الشعار إلى مفاصل الدولة في الغرب، وهي النخب ذاتها التي كانت تكرر في الشوارع، وفي حرم الجامعات الحرية لفلسطين، هذا المؤشر الخطير، بمفاهيم الدولة العميقة في الغرب، يُظهر أن الغربيين لا يولون أهمية لهذا التحول الذي قد يُحدث صدمة في مسارات قائمة منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم. 

صحيح أن هناك دولاً مثل إسبانيا وكندا وبريطانيا بدأت بالتفكير الجدي في أخذ إجراءات عملية تواكب هذا الحراك، لكنها لم تصل بعد للمستوى  الذي طالب به المتظاهرون  في شعاراتهم خلال مظاهراتهم الأسبوعية، تقريبا، منذ أن بدأ العدوان على غزة يأخذ صبغة المجازر ضد نساء وأطفال عزل، عدم قدرة دول أوروبية عتيقة على التأقلم من حراك شبابها راجع من جهة نظري إلى صعوبة في فهم  المتغيرات ذات الطابع الفجائي، في قارة اعتادت على أن التغيرات الجذرية لا تحدث إلى عبر مسار عسكري قوي ومركب في الآن ذاته، فالحروب البينية الطويلة، كحرب مائة عام بين فرنسا وانكلترا (1337 – 1453 م) ، و(الحروب الإيطالية 1494 – 1559 م)، فضلا عن ما يعرف بحرب الثلاثين عاما 1618 – 1648م، تؤكد أن القارة العجوز لا تستطيع فهم التحولات إلا في سياق تاريخها المليء بالصراعات العسكرية المزمنة.

بيد أن الأمر هنا يتعلق بضغط أجيال جديدة لا ترى أن  القوة العسكرية هي أهم وسيلة لتغيير واقع قائم، بل إنها تستخدم مقاربات أخرى أكثر نجاعة عبر قوة ناعمة تمكنها من خوض المواجهة في خارطة العقل الجماعيوبأقل الخسائر، وقد استطاعت أن تخترق وبكل سهولة تلك المؤسسات الأكاديمية المسؤولة عن تحصين الغرب من خلال مناهج تكرس التصور ذاته الذي يخضع لمراقبة صارمة يُراد لها أن تنتج الأجيال في قوالب معينة. وهذا ما اتضح من خلال الإجراءات التعسفية في حق الطلبة المتعاطفين مع فلسطين مثل فصلهم من الجامعات، وعدم توظيف الخريجين منهم في مؤسسات كبيرة مثل ٱمازون وكوكل وتيسلا وميتا وغيرهم...

أدت هذه التوجهات إلى  تحريض الشباب المتحمس على الاستمرار في المسار ذاته، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع مذهل في أعداد المتعاطفين مع فلسطين من خارج الأوساط الجامعة، وهكذا أصبحت أغنية فلسطين حرة أنشودة ثورة تُنذر بتغيير جذري ليس في عقليات معظم المؤسسات الفاعلة في الغرب فحسب، وإنما في أنظمته السياسية، منذرة بتفكيك أهم الركائز التي تأسست عليها السياسة في النظام العالمي منذ وعد بلفور 1917 م. فهل سيحدث هذا التحول ضمن نطاق سلمي أم أن الغرب سيضطر لتكرار تاريخه الحافل بالحروب الطويلة؟

 

د.أمم ولد عبد الله

جمعة, 23/05/2025 - 17:59