كتيبة ماسينا: من تمرد محلي إلى تهديد إقليمي في مشهد أمني مفكك

تعتبر كتيبة ماسينا إحدى أبرز التشكيلات القتالية المنضوية تحت لواء جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. تأسست الحركة في يناير 2015 بقيادة الداعية الفلاني أمادو كوفا، عقب التدخل الفرنسي في مالي وسقوط الشمال من يد الحركات الجهادية. واختارت اسم "ماسينا" في إحالة تاريخية إلى إمبراطورية ماسينا الإسلامية التي نشأت في القرن التاسع عشر تحت قيادة الأمير شيخو آمادو باري، ما يمنح الكتيبة بعدا رمزيا يوحي بإحياء كيان إسلامي مفقود في قلب غرب إفريقيا.

جاء تأسيس الكتيبة كرد فعل مزدوج: من جهة على تهميش الفلان في وسط مالي، ومن جهة أخرى على انسداد أفق أنصار الدين في الجنوب، ما أفرز الحاجة إلى فصيل قادر على ترجمة المظلومية الإثنية إلى مشروع مسلح. واستطاعت الكتيبة خلال سنوات قليلة أن تتحول من جماعة محدودة النشاط إلى فاعل محوري في معادلة الساحل، وذلك من خلال انتشارها في محور دلتا النيجر (موبتي – سيغو) وتوسعها غربا حتى نيورو، وجنوبا إلى شمال بوركينا فاسو، وشرقا إلى أطراف تمبكتو، ضمن نطاق تغذيه هشاشة الدولة وتراخي السيطرة الأمنية.

تعتمد الكتيبة بنية لامركزية قائمة على "المراكز الميدانية"، حيث يضطلع كل مركز بمهام تنفيذية تحت إشراف أمير محلي ومجلس شورى وقاض شرعي، وهو ما يمنحها قدرة كبيرة على التكيف مع السياقات المحلية، من دون الانفكاك عن القيادة العليا التي يحتفظ بها أمادو كوفا، بصفته المرجع الشرعي ونائب أمير جماعة نصرة الإسلام والمسلمين. وسمح هذا التنظيم الهجين – المحلي تنظيميا، الإقليمي استراتيجيا – بترسيخ حضور الكتيبة في بيئات الفلان المهمشة، مع استيعاب مقاتلين من أعراق أخرى حين تقتضي الحاجة.

ابتداء من مايو 2025، انتقلت كتيبة ماسينا إلى طور هجومي عالي الكثافة، اتسم بتصعيد غير مسبوق في وتيرة العمليات ونوعيتها. ففي غضون أقل من شهر، نفذت الكتيبة، ضمن الاستراتيجية العامة لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، عشر عمليات كبرى، تميزت بارتفاع حصيلة القتلى وتوسع نطاق الأهداف. من أبرز هذه الهجمات اقتحام قاعدة بوليكيسي العسكرية قرب الحدود مع بوركينا فاسو، وهو هجوم مدو أسفر عن مقتل أكثر من ستين جنديا، وأكد من جديد قدرة الجماعة على شن عمليات معقدة ضد مواقع استراتيجية رغم الضغوط العسكرية.

 

وما يلفت في هذا التصعيد ليس الكم فقط، بل النوع، إذ ظهرت تكتيكات جديدة، في طليعتها توظيف الطائرات المسيرة صغيرة الحجم لاستهداف المواقع العسكرية، في مؤشر على تطور القدرات التقنية وتكيف الكتيبة مع متطلبات القتال منخفض الكلفة وعالي الفعالية. كما اتسمت العمليات بتنسيق لافت مع مقاتلي تنظيم أنصار الإسلام في شمال بوركينا فاسو، ما يعكس درجة متقدمة من التعاضد العملياتي العابر للحدود، ويؤكد أن الكتيبة باتت جزء من منظومة جهادية مترابطة تسعى إلى تقويض الحدود السياسية التقليدية، وبناء شبكة من الحواضن القتالية المتناغمة بين وسط مالي وشمال بوركينا ومحيطها.

يترافق ذلك مع تحول نوعي في خريطة الانتشار، إذ لم تعد دلتا النيجر وحدها تمثل القلب العملياتي لكتيبة ماسينا، بل أضحت منطقتا كاي ونيورو نقاط ارتكاز استراتيجية في مشروع توسع مدروس نحو الغرب. ولا يعكس هذا التمدد فقط رغبة في الضغط على الدولة المالية من خاصرتها الرخوة، بل يشير أيضا إلى نية صريحة في اختراق الحدود الموريتانية والسنغالية، والتحكم في مفاصل الاقتصاد غير الرسمي، من تهريب الوقود والذهب إلى شبكات العبور غير النظامي. 

وخلال الأشهر الأخيرة، سجلت تقارير موثوقة اشتباكات عنيفة قرب نيورو، بالتوازي مع تفجيرات استهدفت قوافل تجارية مغربية تمر عبر المنطقة، مما ينذر بانفتاح خط توتر جديد على تخوم المغرب العربي، ويطرح تحديات جسيمة على دول الجوار التي كانت تعتبر نفسها حتى وقت قريب في منأى عن تمدد التهديد الجهادي. وفي الواقع، فإن هذا الانزياح الجغرافي يبرز أن الكتيبة لم تعد تتحرك برد فعل ميداني، وإنما وفق تصور استراتيجي لإعادة رسم التوازنات الحدودية وإرباك فضاءات الأمن التقليدي.

 

في العمق، تستند قوة كتيبة ماسينا إلى ثلاث ركائز متشابكة تكسبها قدرة نادرة على البقاء والتمدد في بيئة شديدة الهشاشة: أولها الشرعية الرمزية، حيث تستدعي سردية تاريخية دينية عبر استلهام نموذج إمبراطورية ماسينا، وتتقمص دور "الحامية" لجماعة الفلان في سياق ينظر فيه إلى استهدافهم من قبل الدولة والميليشيات العرقية كمسار تراكمي يقترب من حدود الإبادة الصامتة؛ وثانيها المرونة التنظيمية، بفضل بنية لا مركزية قائمة على مراكز محلية تتمتع بقدر عال من الاستقلال العملياتي مع الحفاظ على الولاء للقيادة العليا؛ أما ثالثها فهو الاندماج المجتمعي، إذ لا تكتفي الكتيبة بالتواجد القتالي، بل تعمل على ترسيخ نفسها كفاعل يومي في حياة السكان، من خلال فرض التفاهمات المحلية بعد حصار تدريجي، ثم إعادة تنظيم المجال وفق تصورها الخاص للعقاب والمكافأة، والعيش والموت، والدين والسياسة.

 

إنها لا تمارس السلطة كما تمارسها الدولة، بل تنتزعها بأسلوب "التمكين من الأطراف"، حيث يغدو الامتثال لمشروعها أقل كلفة – في نظر السكان – من التعرض لانتقام الدولة أو الإبقاء على الحياد. وهنا تكمن خطورتها حيث أنها لم تعد مجرد فصيل مسلح، وإنما مشروع حكم بديل يتسلل من الهامش، ويصوغ يوميات المجتمعات المسقطة من حسابات المركز.

 

في المقابل، أخفقت الدولة المالية في احتواء نفوذ كتيبة ماسينا، ليس فقط بفعل محدودية قدراتها العسكرية، بل أساسا نتيجة السياسات القمعية التي مارستها قواتها النظامية، مدعومة بميليشيات المرتزقة الروس. فقد أدت هذه الانتهاكات - من إعدامات ميدانية واعتقالات تعسفية وتدمير ممنهج للقرى - إلى نسف ما تبقى من الثقة بين الدولة ومكونات اجتماعية واسعة، وفي مقدمتها الفلان. 

 

وتجمع شهادات ميدانية وتقارير حقوقية مستقلة على أن تجاوزات الشركاء الأمنيين لباماكو، وخصوصا المليشيا الروسية، تجاوزت في قسوتها حتى ما ارتكب خلال الوجود الفرنسي، مما دفع شرائح من الفلان إلى الاصطفاف مع كتيبة ماسينا، ليس بوصفها مشروعا عقائديا صرفا، بل باعتبارها إطارا وظيفيا للمجابهة، وأداة تحصين مجتمعي في مواجهة ظلم إثني ممنهج ومؤسسي متواطئ. وبهذا المعنى، فإن فشل الدولة لا يقاس فقط بضعف حضورها العسكري، بل بتواطئها - الصريح أو الضمني - في إنتاج البيئة الطاردة التي تتغذى منها الجماعة.

 

في المحصلة، لم تعد كتيبة ماسينا مجرد ذراع قتالي محلي محدود الفعالية، لأنها تحولت إلى مركز ثقل استراتيجي يعيد رسم خريطة السيطرة في الساحل من الأطراف، مستندة إلى ثلاثة مصادر قوة متداخلة: تآكل الدولة المركزية وانسحابها الرمزي من مناطق شاسعة، فشل النخب الحاكمة في بناء عقد سياسي جامع، ثم عسكرة المظلومية العرقية وتحويلها إلى رافعة تعبئة وتمكين. ومع استمرار هذا المسار التصاعدي، فإن التهديد لن يظل محصورا في وسط مالي فحسب، بل تزداد احتمالات انتقال العدوى إلى الجوار، بما في ذلك بوركينا فاسو، والنيجر، وموريتانيا، بل وحتى عمق غرب إفريقيا؛ ذلك أن الأمر لم يعد يتعلق فقط بتمرد مسلح، وإنما بظهور نظام مضاد للدولة، يتغذى من ضعفها، ويتوسع كلما ارتبكت السلطة في الرد، أو تواطأت مع العنف، أو عجزت عن استعادة المبادرة خارج المقاربة الأمنية.

 

وما لم تدرك الدول المجاورة أن هشاشة الحدود ليست مجرد معضلة أمنية، بل مؤشر على تفكك السيادة وفقدان القدرة على صيانة المجال الوطني، وما لم يعد الاعتبار – فعلا لا قولا – إلى آليات العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية، فإن كتيبة ماسينا لن تكون مجرد فصيل مسلح، لكونها ستغدو مع الوقت نواة لنمط جديد من السيطرة الهجينة، يفكك الدولة من أطرافها ويعيد توزيع السلطة على أسس عرقية وشبكية. حينها، لن يقاس النفوذ بالخرائط الرسمية وإنما بخطوط التماس التي ترسمها الجماعات، ولن يكون المركز هو صانع القرار بل مجرد صدى متأخر لما يقرر في الهوامش. وسيتحول الأمن من وظيفة سيادية إلى صفقة ظرفية، ينتزع فيها الاعتراف بالقوة لا بالشرعية، وتدار فيها المجتمعات تحت منطق التفاوض على حافة البندقية.

 

مركز أوداغست للدراسات الإقليمية 

جمعة, 06/06/2025 - 08:50