منزل وسط نواكشوط

أهي صدفة أن يأتي خمسة أشخاص في ذات المساء يسألون عن غرفة للإيجار في الحي المجاور لدكاننا بعد ان كاد أن يتحول الى أطلال ؟ 

هكذا سألني عمي محمذن وهو يتيمم بصعيد- أشك في طهارته - ليزاحم المصلين في الصف الأول من مسجد الحي بدراعته التي رسمت عليها الأيام جداريات من شح وعطرتها الليالي بروائح تبعث على الغثيان .

تجاهلتُ بعقوق - له ما يبرره- سؤال عمي وواصلت البيع رغم نداء المؤذن " حي على الصلاة " !!!

بعت لعامل غيني علبة سردين وقليلا من البطاطا والبصل وقطعة خبز ، بعت لغلامين يتيمين قاصرين نصف علبة من مالبورو ! ثم تواصلت بلغة الإشارة مع ارملة خمسينية تواطأ الفقر والحزن ليخفيا جمالا أمازيغيا أصيلا يشع من عينيها .

عاد عمي من صلاة المغرب فقطعت الأرملة أذكارها لتطلب بدلال يخنقه الحياء نصف كيلوغرام من المعكرونة ومائة غرام من الدجاج دينا من عمي .

لست وقحا بتاتا إن وصفت عمي بالبخل لكنه في ذلك المساء كان كريما إذ وافق على طلب الأرملة ، لم أجد تفسيرا لذلك سوى ثلاثين عاما من الجيرة بين عمي وتلك الخمسينية في مدينة R وسط انواكشوط القديم .

أثناء فتحي لثلاجتنا التي تفوح منها رائحة اللحوم وأدوية مامودو مؤذن المسجد قال عمي للأرملة حفصة : 

- هل تظنين أن على ول خيطورة سيأجر منزل والديه ؟؟

- ومن الشقي والعياذ بالله الذي سيأجره ؟؟ ( ردت حفصه ) 

- ليس شقيا واحدا بل خمسة أشقياء أتوا كل على حدة يبحثون عن غرفة للإيجار ( رد عمي ) 

- غريب!! هو على ما أذكر خمس غرف وصالة و حمامين ، المهم سأعطيك رقم علي ول خيطورة لعل ذلك المنزل المرعب يعيش تاريخا جديدا .

غادرت حفصة بعد ان سجل عمي الرقم على غلاف دفتر الديون ليكون أول رقم غير مبالغ فيه يكتب في تلك الدفتر الكاذبة الخاطئة !!

و" عادت حليمة لعادتها " حيث ارتدى عمي رداء بخله العتيق مرسلا رنة تشبه غمز العشاق الخائفين من هاتفه الى هاتف علي ول خيطورة ثم انتظرنا عدة دقائق فرن هاتف عمي : 

- ألووو السلام عليكم 

- وعليكم السلام أخي علي ، معك محمذن ول عبد الله صاحب الحانوت في " مدينة R " .

-أهلا وسهلا ، منذ زمان !! كيف حالك وكيف حال الجيران .

دخل عمي في الموضوع مباشرة وكأنه يرشد لعلي ول خيطورة رصيده فقال : 

- هناك مستأجرون يريدون منزلكم المجاور لدكاني من أجل ذلك أريد أن أعرف رأيك وبكم تأجر المنزل وهل ترضى بتأجيره غرفة غرفة ؟ 

ارتبكت نبرة علي ول خيطورة حين ذكر منزلهم في مدينة R وقال : 

- محمذن من فضلك تولى أمر المنزل وإيجاره حتى الفلوس احتفظ بها حتى نجد طريقة لإراسلها لأخواتي المقيمات في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وكأن عمي كان ملتهفا لهكذا تفويض فقطع الإتصال دون وداع لعلي ول خيطور ودون أن يسأله عن مفاتيح المنزل !!!

بتنا تلك الليلة كعادتنا نستمع في دكاننا الضيق المكتظ بالأغذية والمبيدات الحشرية وقنينات الغاز لأوركسترا غير متناسقة من زغاريد البعوض وشخير عمي وأنين الثلاجة وكأنها تبكي من التناقضات ثم أتى الفجر يشعل سيجارته وينفث من دخان السيارات المهترئة والمخابزالعتيقة ، أذن مؤذن الحي ليستقظ عمي وينحني نحو صعيده غير الطيب ليتيمم وليزاحم في الصف الأول من المسجد ! 

أعددت شايا صباحيا لايجيده إلا من بات يتسول الصباح لينقذه من كوابيس الليل والبعوض والشخير ثم بدأت أراقب الشمس وهي تشرق بلامبالاة وكأنها ملت من عرق بسطاء انواكشوط من عمال ومتسولين وأرامل لكن سيدة ذات سحنة افريقية تميل الى البدانة وفي نبرتها ثقة لا تبررها هيئتها الرثة رغم النظافة المصطنعة ! عرفت عن نفسها بطريقة لا يجيدها سكان انواكشوط قائلة : 

انا كمبه قدمت منذ أيام من داكار أبحث عن غرفة للإيجار وقد كلمت بالأمس والدك ، أهو والدك ؟؟ 

- لا ليس والدي إنه عمي 

- يابني نحن عابرو السبيل لافرق عندنا بين الوالد والعم أو حتى الجار لأننا نتعلق بأي شيئ له علاقة بجذورنا مثلما يتعلق الغريق بقشة !!! ( هكذا ردت كمبه بنيرة كلها أسى ) .

خفضت ناظري الى الأرض وتمتمت بكلمات أظنها : نعم نعم صحيح صحيح .... ثم أشرت لها بيدي لتتفضل بالجلوس على خنشة للقمح ريثما يصل عمي الذي ذهب الى شارع الزرق جنوب سوق العاصمة ليصطاد طرائده مع العصائر والبسكويت التي أوشكت صلاحيتها على الإنتهاء فيشترها مخفضة من بعض أشياخه في الغش ! 

جلست كمبه على الخنشة ووضغت حقيبتها على الأرض فأصدرت صوتا لايمكنه تصنيفه لكنه مزعج ربما يشبه صوت الإنسان المصروع في نزال مصارعة أو شجار بدوي عند وقوعه على الأرض ! 

خفت من تلك الحقيبية الجلدية وحاولت أن أتجنب النظر إليها مع أنني في قرارة نفسي لا أجد أي تفسير مقنع لخوفي منها .

في تلك الأثناء وصل شاب طويل القامة نحيل لدرجة تذكرني بمرضى الأيدز يرتدي دراعة تعاقبت الأيادي على غسلها حتى أصبحت زرقتها تحن بشكل لافت الى أيام البياض ، سلم الفتى بصوت جهوري وكأنها يريد بعض الوقار والهيبة ليعوض به نحافته اللافتة .

عرف الشاب نفسه قائلا : " أنا عبد الله قدمت من كيفة لأدرس في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية وبعد بحث مضني وجدت غرفة في هذا المنزل لذا أتيت مهرولا كي لا تضيع مني هذه الفرصة " .

رحبت بعبدالله وطلبت منه الجلوس ريثما يأتي البقية وبالفعل اكتمل عقد الخمسة بوصول محمد الأمين وبكاري و ويونس في نفس الوقت تقريبا .

محمد الأمين شاب أسمر من ضواحي اركيز يدرس الأدب العربي في كلية الآداب بجامعة نواكشوط أنيق الهندام يتكلم بصوت خافت و يتفحص المكان بنظرات واثقة لا تعززها حقيبته مهترئة و نعلاه  اللتان  أخذت من سمكهما شوارع نواكشوط ضريبة مضاعفة حتى صارتا مناسبتين للتزحلق .

بكاري لعله أكبر القوم سنا أستاذٌ للرياضيات اعادوه حديثا الى نواكشوط بعدما قضى عقدا وهو يدرس نظريات ديكارت وبيتاغورس و طاليس لأبناء الضفاف .

بكاري نظراته زائغة ولا يجيد الإنصات متسرع مثل منحنى لوغاريتمي ، يمزج بين فرنسية سلسة عذبة وحسانية عكرة مالحة مضحكة بعض الشيئ و خامس القوم يونس شاب مغربي عُلّق قلبه بالمحظرة الشنقيطية فترك حي العكاري بالرباط ليدرس في أم القرى ثم قرر الإقامة بنواكشوط لأسباب يخفيها بل ويتلعثم عند السؤال عنها .

أصدر باب منزل أهل خيطور عن فتحي له صوتا يشبه صفارات الإنذار وكأنه بتحذريه هذا يتبرأ الى الله مما سيحدث للوافدين الجدد .

تقاسم بكاري و محمد الأمين الصالون الكبير ، أخذت كمبه غرفة كان أهل خيطورة قد أعدوها للنوم أما عبد الله فرضي بأصغر الغرف قرب السلالم ، وأصر يونس على مجاورة المطبخ فأخذ ثاني أكبر الغرف بعد الصالون في حين بقيت  غرفتان من المنزل عصيتان على الفتح .

لم تخسر كمبه أي دقيقة فكشفت عن ساقيها وبدأت تنظف المنزل أما البقية فذهبوا لإحضار أمتعتهم بعدما دفعوا إيجار شهرين .

امتزجت رائحة الجافيل والأومو وبخور كمبه برائحة الزمن التي تفوح من المنزل فكان الجو أكثر قرابة....

قضى الوافدون الجدد ليلتهم الأولى بسلام على ما أعتقد وفي الصباح قدمت كمبى لتشترى فطورا لا يربطه بفطور الفنادق ذات النجوم الخمسة سوى قطعة خبز نحيفة وحفنة من النيس كافيه تتحدث لغة الفلايتوكس نطرا لطول الجيرة بينهما في الجانب الأيمن من حانوت عمي .

بكاري أيضا أتى ليشتري فطورا لو سمعه عمي وهو يطلبه في حدود السابعة والربع صباحا لنُقل الى المستشفى فاقدا للوعي من ألم معدته ...

سلمت لبكاري بيضتين وقطعة من الماجي وبعض البهارات الحارة وأنا أتحسس كتفي اليسرى .

أغلب الظن أن الثلاثة الذين خُلفوا عن الفطور قد أعدوا شايا محظريا في غرفة يونس متقاسمين معه بعض الفول السوداني والبسكويت المدور ومما يعزز هذا الإحتمال أنني شاهدت الشاي والفول والبسكويت ضمن أمتعة الفتى الرباطي .....

في عز الظهيرة كانت برك المياه الآسنة في سوكوجيم تعرقل بحسد فاضح سباقات السراب الأنيقة والتي تبدأ من غرب كرفور مدريد لتنتهي أمام بناية المعهد العالي وكان عمي يعبر تلك الأمواج أشعث أغبر بعدما رمته تاكسي عند ملتقلى طرق " مدريد " قادما الترحيل .

رعم الحر والعرق بدا عمي ودودا ودا لا يبرره إلا خوفه من أن أبلغ خالتي بميبته خارج الحانوت .

- " لخليطة جاو " ؟؟؟( هكذا سأل عمى وهو يبتسم ) 

- أتوا جميعا واستقروا في المنزل ( هكذا أجبته وأنا عابس ) 

- " مازلو أهل الخلاء عاطينهم سهم التبرانيت " هكذا قال عمي وهو يضحك .

- لكن أهل الخيام اتصلوا اليوم يذكرون بقرب موعد أم لخوت عند طبيب القلب ( هكذا أجبته بلؤم ) .

ابتلع عمي ضحكته ونزع عمامته وجلس بحسرة يضرب أخماس بأعشار ليتأكد بالفعل أن موعد أم لخوت بعد ثلاثة أيام فقط أي قبل نهاية أسبوعه العسلي السري في الترحيل .

في حدود الثلاثة ظهرا كانت الحرارة والضغط داخل حانوتنا كفيلتين بتحفيز أكثر العناصر الكيميائية خمولا ولولا فضل الله لكانت حادثة تشرنوبل مجرد حدث عابر أمام انفجار حانوتنا الغني بالسيانسد والزئبق وغاز البيتان ......

ولولا نفحة من " الهول " يمن علينا بها الراديو حين تشدو النعمة منت الشويخ قرب فوهة البركان بقول المجنون : 

وَداعٍ دَعا إِذ نَحنُ بِالخَيفِ مِن مِنىً

 

فَهَيَّجَ أَحزانَ الفُؤادِ وَما يَدري

 

دَعا بِاِسمِ لَيلى غَيرَها فَكَأَنَّما

 

أَطارَ بِلَيلى طائِراً كانَ في صَدري ....

قدمت أم لخوت في موعدها موزعة هدايا قريتنا الجميلة وكان نصيبي مساويك لطيفة ملفوفة بعناية في ورق وردي ، غمزتني أم لخوت عند استلامي لهديتي وقالت تلك رسالة بنت خالتك سارة .

سارة عهدي بها في الحي نحيفة خجولة تمسك دوما بطرف ملحفة أمها ! 

لا شك أنها الآن كبرت أو على الأقل كبر جسمها أسرع من عقلها ولاشك أن أمها لازالت تعذبها على طريقة المخابرات العربية لكي ترتوي من حليب بقراتها ما لم يدر بخاطر خالتي المسكينة أنني مذ شاهدت المسلسلات المكسيكية والأفلام الهوليودية والمجلات الفرنسية وأنا مفتون بذوات القوام الرشيق عاشقا للنحيفات ذوات السحنة الشاحبة والعيون الجريئة .

تناول عمي هديته بشماله مثل صنديد قرشي مشرك يتناول كتابه يوم الحساب ...

سمعت عمي يردد بصوت خافت ما مفاده أن أم لخوت لو شربت كل هداياها من " تخمخت و الصلاحة " لما احتاجت أصلا لطبيب الضعط والسكري .

أثناء قدوم ضيفتنا زارنا يونس المغربي واشترى خبزا وبعض الكوكا كولا ثم أتى بكاري ليشترى سجائر من " لجاند " ، سألت بكاري عن حالهم فأجاب مبتسما : " الحمد لله كل شي زين " عندها تبادت أنا وعمي نظرات تحمل في طياتها كثيرا الشفقة وقليلا من السخرية .

في مثل هذه الظروف الطارئة عندما تزورنا السيدة الأولى أذهب الى السبخة عند أقارب لي لأنام تاركا حانوتنا فندقا لأم لخوت وعمي وفي آخر مرة ذهبت فيها الى السبخة تعرضت لسطو مسلح ترك جدارية على جبهتي تخلد ثباتي في أرض الميدان ولازال عمي يتعجب كيف أصابوني مقبلا غير مدبر كما أعتاد أجدادنا في مثل هذه المواقف .

لم ولن أشك يوما في محبة عمي لي ولا في شفقته علي ،  لذلك لم أستغرب لماذا أمرني أن أبيت على سطح منزل أهل خيطورة ريثما تنفرج ههذ الأزمة ( هكذا تمم عمي ) 

لأول مرة أشاهد القمر في نواكشوط فمن سطح منزل أهل خيطور قابلت القمر فبدا لي أنه يحس بالغربة تماما كما أحس في مدينة R ، تذكرت أيضا كيف كان ذات القمر يعطي لتلك الربى الناعمة غرب ابي تلميت بياضا مثل بياض نحور عذارى دمشق وودت لو أسأله عن سهراتنا عن المدح هل يتذكرها ؟ وعن ليالي منتصف رمضان في قريتي حين كنا نضحك على ذات النكتة ليلة بأكملها ؟ ثم تحسرت على وحدتي في نواكشوط على طريقة بن زيدون إذ يخاطب الليل فيقول : 

يا لَيلُ طُل لا أَشتَهي :: إِلّا بِوَصلٍ قِصَرَك

لَو باتَ عِندي قَمَري :: ما بِتُّ أَرعى قَمَرَك .

أغلب الظن أن كمبه كانت مشغولة أو نائمة أثناء صعودي الى سطح منزل أهل خيطورة ، أو على الأقل هذا ما فسرتُ به صعودها الى السطح نصف عارية في ثلث الليل الأخير .

كانت كمبه تناجي السماء بتراتيل مرعبة وقد بدت صلعاء بشكل مبالغ فيه ، أما أنا فعانقت وسادتي ملتصقا بفراشي أنفث أنفاسا حارقة مثل تنين غاضب وأقطر عرقا باردا مثل عشاء المشردين .

ثم كان ما كان من مناسك مخيفة الى أن التفتت كمبه فشاهدتني ، لا شك أنها خافت قليلا أو ارتبكت لكنها سرعان ما استعادت رباطة جأشها واقتربت مني 

- لا تخف يا بني ! ( هكذا قالت كمبه ) 

- ننننننعم ( تلك النون المكررة بفعل أسناني التي تتبارز خوفا ) 

- سأخبرك سرا ( هكذا أخبرتني كمبه ) .

تم بدأت تتحدث : 

( كان ذلك في داكار ليلة عيد ميلادي الأربعين ليلتها سهرت مع بعض الأصدقاء رقصنا وشربنا حتى الثمالة وعدت الى منزلي في الرابعة صباحا لأستفيق من سكرتي على معظم موتى قريتنا الواقعة شمال مدينة كويدا هناك في بلدي بينين .

ليلتها خفت مثلك أو أكثر لكن الجد ماتوي هدأ من روعي ورشني بماء ساخن ثم بارك لي الجميع رتبتي في الفودو من تلك الساعة وأنا أستنطق الأرواح المظلومة وأبحث معها عن مخرج لترقد بسلام ...

هل تدري أنه في الغرفتين العصيتين على الفتح من 

منزل أهل خيطورة توجد روح ثائرة ! 

يابني هذا المنزل كان مخبأ سريا لأمن الدولة يتم فيه التحقيق مع المعارضين للأنظمة منذ الإستقلال حتى انقلاب معاوية سنة 1984 ) 

لم تنهي كمبه كلامها لكنني أحستت برغبة عارمة في الصراخ ! هيهات فلساني معقود والسيال العصبي في جسمي يسير ببطئ شديد مثل بنات الزوايا ...

أحستت بشوق عارم لعمي ولحانوتنا ولقريتي و حتى لسارة .

ثم واصلت كمبه حديثها : 

( في الغرفة المجاورة لغرفتي وتحديدا في شتاء 1967 كان المفتش ( م ل ) قد جلب من روصو كنزا هائلا حين قبض على الرفيقة مريم .

قدم المفتش بضالته الى منزل أهل خيطورة والذي كان حينها تابعا لأمن الدولة - حسب ما أخبرتني مريم البارحة - كانت الرفيقة عصية على التعذيب رافضة أن تخبر المفوض أسماء بقية الرفاق و اكتفت بأنها كانت مولعة بلعب البيلوت و تسهر في الصطارة مع كل من يجيد اللعب فقط .

فجأة فقد المفتش صوابه ورمى مريم بقنينة من الفانتا كان يشربها فوصل الزجاج الى الدماغ وسرعان ما نُظف مسرح الجريمة وأُُبلغ الأهل أن مريم هربت الى داكار مع بعض الفساق ليشربوا الويسكي هنالك ! 

صدق الأهالي في القرية الرواية الرسمية وانهالوا بلعناتهم على البنت الكادحة في حين بقيت روح مريم حبيسة في هذا المنزل وسط نواكشوط ) 

أذن المؤذن قبل أن تنهي كمبه حديثها غير المباح وقبل أن تحك بقية قصة الروح المسجونة داخل منزل أهل خيطورة .

لملمت فراشي لأعود الى حانوتنا وعادت كمبه لغرفتها .

عند باب المنزل قرب المطبخ لمحت يونس يسخن الماء للوضوء ففهمت اصراره على مجاورة المطبخ ، قابلت بكاري يدخن خارخ المنزل من فرط تحضره وعند وصولي الى الحانوت لمحت عمي يأخذ الخبز من سيارة الفرن فسلمت عليه ودخلت على أم لخوت التي لا يرُى عليها أثر النوم وسط البعوض والسموم وهدير الثلاجة وشخير عمي ...

شعاع طائش من أشعة شمس ذلك الصباح في مدينة R أرغم أم لخوت على تغير مكانها داخل الحانوت فاقتربتْ من عمي مما عجل مغادرته الى شارع الرزق لجلب بعض السلع العشوائية .

بقيت مع خالتي أم لخوت وحدنا في الحانوت فسألتها :

- خالتي هل تؤمنين بالسحر 

- أجل يابني فهو مذكور في كتاب الله 

- هل .....تم ......( هكذا ترددت قبل طرح السؤال ) 

- لما تسأل عن السحر ؟ آه صحيح نواكشوط مكتظة بالسحرة لكن لاعليك سأعلمك آيات تحفظ بها نفسك .

ثم ذكرت لي الفاتحة والإخلاص والمعوذتين وآية الكرسي والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة ( هكذا أجابت خالتي ) .

عكس كل العشاق و الشعراء صرت متلهفا لثلث الليل الأخير وكأني ناسك متعبد ، لأبطل طلاسم وأسحار كمبه بما زودتني أياه أم لخوت من آيات محكمات .

ثم أتي ليل مدينة R المكتظ بعجائز آكرا المتقاعدات من أقدم مهنة عرفها التاريخ وأصوات التاكسيات المعيلات للأسر وتلال القمامة ذات الرائحة المميزة التي تشبه رائحة الجحيم 

بدا عمي وهو يعد فراش أم لخوت مثل مكحوم عليه بالأحكام الشاقة في أحد سجون أوربا الشرقية أما أنا فقد تناولت بعض البسكريم التركية مع كأس من حليب الشايلة المحلي ثم صعدت في حدود الحادية عشر والنصف ليلا الى مسرح الرعب والشغف والتحدي على سطح منزل أهل خيطورة .

بدت السلالم طويلة وأنا أصعد الى سطح المنزل لأتفاجأ ببكاري يغسل أسنانه بمعجون أشتراه صباحا من حانوتنا فأعتذر بأدب عن سواكه في غير محله : 

- هههه علي أن أنام باكرا و كمبه لم تخرج بعد من التواليت لذلك ....( هكذا أعتذر بكاري المتحضر ) .

لم يدر بكاري أنني أكرمكم الله بلت ثلاثة مرات البارحة على سطح المنزل بفعل حيب الشايله وما كنت لأعتذر لو شاهدني متلبسا بفعلتي .....

ان هي إلا دقائق معدودات حتى صعد يونس بفرشاته ومعجونه الذي اشتراه من الصيدلية المجاورة لحاونتنا ليعتذر بدوره والسبب دوما طول إقامة كمبه في التواليت .

غادر يونس وبقيت ملقى على فراشي أفكر في قصة الرفيقة ومريم وبتشجيع من شيطان الشغف قررت أن أترك كمبه تمارس شعوذتها دون أن أقرأ المبطلات .

وأخيرا انتصرت البيولوجيا على المتافيزيقيا فنمت من فرط الإنهاك الجسدي بفعل البيع المتواصل في حانوت عمي وأنا في قمة الحيرة والتفكير في السحر والإيمان وعودة الأرواح .

في تلك الليلة رأيت في نومي أفعى سامة باردة تمر فوق ظهري العاري فاستيقظت فزعا لأجد كمبه تناجى أرواحها .

أحست بي كمبه وقت اسيقاظي و التفتت إلي ثم قالت : 

- عندي لك مفاجأة ( هكذا قالت كمبه بفرح ) 

- ببببعععع ( هكذا ابتلعت ريقي رهبة وخوفا ) 

- وافقت مريم أن تحكي لك قصتها ( هكذا قالت كمبه ) .

لم تكد كمبه تنهي كلامها حتى ظهرت مريم بكومة من الضوء تميل الى الإصفرار وبملامح غير واضحة مثل تصوير كاميرات الهواتف غير الذكية .

عمت رائحة الرطوبة وعطر الموتى الممزوج بعبق الثراء المبلل سطح منزل أهل خيطور .

لم يكن صوت مريم بتقنية صورتها بل بدا واضحا لا يعكره سوى بعض العبرات أحيانا .

تسمرت في مكاني وأنا أتابع العرض المرعب .

( أنا مريم من مواليد 1949 في سان لويس حيث كان أبي يمارس التجارة نشأت ودرست في اندر حتى الإعدادية وبعد رحيل والدي 1964 عدنا كلنا الى مدينتا روصو فتزوجت والدتي من صديق أبي وتزوجت أختي مرغمة من قريب والدتي فبدأت سلسة من سوء التفاهم بيني وبين أمي توجتها بالسكن مع صديقتي المطلقة في منزلها بالصطارة .

في منزل صديقتي تعلمت البيلوت وذاع صيتي كأفضل فتاة تمسلك الورق وكانت مروغاتي في " 100" تتناقلها الركبان وصارت نوادرا عند أعرق أندية البيلوت في بتلميت ونواكشوط وأطار .

لي جسم طري كفيل بإسالة لعاب أكثر الرجال عفة فصرت مرمى لنظرات المراهقين وهدفا لإبتسامات الشباب وغمزاتهم وغاية لدى المسنين المتصابين يقدون من أجلها كافة العروض المغرية .

لم تزعجني نظرات المراهقين الفاحصة و أفرحتني غمزات الشباب بينما أزعجتني عروض المسنين لسبب تعمدت عدم ذكره لك عند الحديث عن صديق والي المرحوم وزوج أمي فقد خلا بي ذات ضحى في منزلنا بسان لوي حين كان في ضيافة أبي وفي غياب أمي وأخوالتي هاجمني ذلك الوحش - خنقتها العبرات - 

قاومت قاومت ثم فض الوحش بكارتي ....)

بكت مريم ولأول مريم أسمع بكاء الأموات فكان موجعا يقطع أوتار القلب ويحرق الكبد .

بكت كمبى نحيبا حزينا يشبه عزف الناي ويصلح لأن يكون في مقام " اللين " .

أما أنا فسالت مدامعي بغزارة لم تتوقف إلا بأذان المؤذن عندها أختفت كمبه ومريم ولملمت فراشي عائدا الى حانونتنا 

صباح آخر في مدينة R ، كل شيىء اعتيادي في حانوتنا سوى موجات فرح تشع من عيني عمي إيذانا بقرب عودة خالتي الى قريتنا ، 

كانت نتائج فحوص أم لخوت جيدة ، وكان عمي يستعد ليبدأ من جديد مراهقة الترحيل المتأخرة .

في تلك الأثناء بعت لمحمد الأمين أوراقا وأقلاما ولأول مرة أتحدث مع المستأجر الرابع لمنزل أهل خيطور 

- أتمنى أن تكون إقامتك جيدة ( هكذا سألته بفضول ) 

- الحمد لله يضايقني الفتى المغربي بطبخه وكمبه بمكوثها في الحمام لكن على العموم المنزل قريب من كل شييء يهمني في نواكشوط ( هكذا أجاب الفتى الأسمر بثرثرة لم أكن أتوقعها ) .

ربما كان لثرثتنا أن تطول لولا توقف سيارة رينو ذات لون رمادي موحش، تماما مثل لون الفراق ، أمام حانوتنا ، 

تلك الرينو حمّلها البدو من أمتعتهم ما ينوء بالعصبة من عربات قطار ازويرات .

أمتعة خالتي لم تكن نشازا فقد اشترى لها عمي كلما ثقل وزنه وانخفض ثمنه ......

بدأت الرينو تصدر أصواتا غير منطوقة مثل زوجة إفريقية خائفة تعترض خلسة على طلبات زوجها المتسلط ، ثم غادرتْ وغادرتنا أم لخوت الطيبة .

فعلا خالتي طيبة مع الجميع إلا عمي فهو يخشاها كما يخشى جنرالات كوريا الشمالية رئيسهم ، ولازلتُ عاجزا عن تفسير ذلك الخوف فهو لا يحبها بل يضايقه قربها لكنه في حضرتها لا رأي له وعند ندائها يلبي أجل !!

أذن مؤذن الحي للعصر فأرسلني عمي الى الغسال لأحضر دراعة بيضاء وقميصا مزركشا يشبه قمصان لاعبي السيرك و احتفظ بسرواله البيني العتيق !!

لو كنت متأكدا أن ذوق عمي في الترحيل مثل ذوقه في القمصان لأخبرت أم لخوت قبل مغادرتها !

بقيت وحدي في الحانوت أبيع الخبز والفلايتوكس والألبان المحلية والسجائر 

جاء المساء خلسة حاملا معه جلبة كائنات مدينة R الليلية وفي منتصف الليل أغواني شبح مريم لأسامرها رفقة كمبه على سطح منزل أهل خيطور .

حاولت أن أتفحص ملامح شبح مريم لكن الدوار يشتد علي كلما أمعنت النظر في مريم عكس صلعة كمبه التي تضيئ المكان .

لم تكمل مريم من حيث انتهت بل تجاوزت سنوات رحيل  أبيها وزواج أمها من مغتصبها الى إحدى الليالي في الصطارة حيث تقول : 

( جاء لتوه الى روصو قادما من موسكو حيث أنهى تكوينا متوسطا في تقنيات الري لا شيئ يميزه عن بقية الشباب المتأنقين في منزل صديقتي ، قال لي فيما بعد ممازحا أن أحد رفاق السوء قد جلبه الى ذلك المنزل ، في البداية لم يثر أي اهتمام لدي وعند وصول قطار الليل الى محطته الأخير كان كل خليل قد آوى الى خليلته ، حتى صديقتي ذهبت تسير على رؤوس أصابعها الى الصالون حيث ينتظرها عشيقه الدركي الخشن .

فجأة بقينا وثالثنا المذياع تشدو فيه محجوبة منت الميداح ب " عريت " ، استبد بنا الطرب حتى ثملت أرواحنا وتناغمت آهاتنا لحظتها قال : 

- تبريعة واحدة من فتاة سمراء أفضلها على كل " اتهيدين البيظان ومدائحهم الزائفة " ( هكذا قال لي ) 

ولأول مرة أجد فيها نفسي أتلعثم أمام رجل ! لم تسعفني الكلمات وبذلت جهدا قاسيا كي أعيد ملحفتي الى ذراعي اللذين عراه الطرب ثم تمالكت بعض نفسي وقلت : 

- ماذا تعطي مقابل تبريعة صادقة من فتاة سمراء ؟

- أعطي مقابلها قلبي !! ( هكذا رد بنرة ملائكية ) .

لطالما عرض علىّ الرجال أموالهم ووساطتهم ولطالما عرضوا الزواج سرا وعلنا لكنه كان مختلفا فوالله ما أدري أي شيطان عاشق أوحى إليه بهذا العرض ، عاد التلعثم اللعين ولأول مرة أكتشف ثقبا في سقف منزل صديقتي لأنني صرفت نظري عنه خجلا الى السماء .

ليلتها تلعثمنا وزاغت أبصارنا وخفقت قلوبنا ، لم نتبادل أبدا النظرات لكن مبادلة أخرى حدث في ذلك الليل الصطاري البهيم ، تبادلنا القلوب ، سلمني قلبه وبالمقابل سلمته قلبي وجسمي ولاحقا دفعت روحي ثمنا لسلامته ) 

سكتت مريم ربما خنقتها العبرات وبدأت كمبه طلاسمها وترتيلها التي سارت عكس السلم الموسيقي فانتقلت من " اللين " الى" فاغو " .

عادت مريم الى بوحها وعادت أيضا لقفزاتها الزمنتة لتتجاوز ربما عن قصد حوالي ثلاثة أعوام تقريبا : 

(علمني الإدمان على الكتب الحمراء حتى صارت أقوال لينين مثل أذكار الصباح والمساء لدي ، علمني العمل السري وتحريك الخلايا النائمة حتى صارت تقارير المخبرين حُبلى باسمي الحركي " آنا " أو الرفيقة آنا .

ولم يكن يدر ببال أذكى ضباط الدرك والحرس و مفوضي الشرطة أن مريم ملكة البيلوت بالصطارة هي الرفيقة آنا !! ) 

بدأت خيوط الفجر الأببض تحرج خيوط الفجر الأسود لتغادر سماء مدبينة R .

واختفت مريم بينما نزلت كمبه الى غرفتها وبقيت وحدي أتأمل مدينة R التي بدت أجمل وهي تسيقظ كسولة دون مكي

كان على النزول باكرا لفتح حانوتنا و أخذ الخبز من سيارة التوزيع كما كان يفعل عمي الذي غيبته ليالي الترحيل !

كل زبائن حانوتنا قد لاحظوا شرودي وأنا أبيع لهم ! 

أحيانا أزيد الزبدة في الخبز وأحاينا أرد لأحد الزبناء ضعف ما دفع لي وأحيانا لا أرد التحية لصديق !!

في الهجير رمت أمواج السراب عمي فجأة داخل الحانوت فنزع عنه ثياب الحب ليلبس ثياب الحرب وبدأ يوزع السكر الذي اشتراه من الترحيل الى كميات صغيرة يبيعها لمتسوقي مدينة R غير المبذرين .

فجأة سقطتُ مغشيا علي ولم أفق إلا وأنا في العيادة المجمعة .

بت ليلتي في اكلينيك أتجرع لسع البعوض ورائحة المرض وأصوات شتى تكفي لتجعل المرء يقضي ليلة غير سعيدة .

مما زاد حسرتي أنني لم أستمع لبقية غراميات مريم وتفاصيل اعتقالها وتعذيبها ، لكن طيف كمبه زارني ضمن وفود الحمى اللعينة التي عادتني في تلك الليلة .

كان الطبيب المدوام ليلتها منشغلا بهاتفه الذكي وبمجموعات الوات ساب إلا أنه تكرم علي صباحا بدقيقة من وقته الثمين وقال لعمي الذي صلى الصبح في مسجد قرب اكلينيك : 

" هذا الفتى مرهق جدا لذا أقترح أن يغادر نواكشوط الى البادية " .

تنازعني شعوران أحدهما بالشغف والفضول لما ستبوح به شهرزاد منزل أهل خيطور ، أما الشعور الآخر ففي ثناياه امتزج الفرح بالعودة الى الحمى والشوق الى ليالي القرية البطيئة الحافلة بالنميمة والضحك من غير سبب والإنتقال بين خُييمات الحي مثل سائح ياباني مفتون بباريس تتبادله مقاهي الشانزليزي .

لم يحدث هذا ولا ذاك ! قرر عمي وبغرابة أن يصطحبتي معه الى الترحيل .

في عريش تلك الخمسينية الأقرب للبدانة والتي تشي أسارير وجهها أنها عاشت مترفة - ذات دهر- أشارت بوصلة الهوى لعمي وفيه عقد معها زواجا سريا بحضرة وليها وابن عمها - هكذا أخبرتني فيما بعد - .

رحبت بنا خمسينية الترحيل وأعدت لي فراشا وثيرا وشرابا باردا ثم بدأت تعد الغداء .

تلك السيدة شأنها شأن أي انسان شبع ثم غدرت به الأيام لاتزال تتصرف وكأنها في أيام الرخى عكس الذين شبعوا بعد الجوع فإن مرارة الجوع في أفواههم تحول الشهد الصافي الى علقم مر ! 

نمت في الترحيل نوما لم أذقه منذ غادرت حضن أمي ، زارتني كمبه في المنام وبلغتني سلام مريم ثم توالت الكوابيس لأرى في المنام ثلاجتنا في الحانوت وكأنها جنازة جُهزت للصلاة عليها وأرى الغرفتين المغلقتين في منزل أهل خيطور تفتح أبوبها لنسمع أنين رجل يضرب بالسياط وفتاة تصرخ من ألم لم يتضح لي وشاب ملتحي يذكر الله كلما توالت عليه السياط وأحذية الرنجورس .

فجاة لم أعد أتحمل الكوابيس فاستيقظت فزعا لأجد عمي عند رأسي يقرأ سورة يس وسيدة الترحيل غير بعيد منه ترمقي بنظرات لاشك أن صاحبتها قد جربت الأمومة .

كانت الحمى تنسحب من جسمى فلم يبق بي سوى بعض الوهن الذي سرعان ما تبدد عندما اكتشفت مدى لطف جيران ضرة ام لخوت واستعداد بناتهن لأن أقضي أول الليل معهن تاركا عمي وخمسينيته يرتويان من تساقيهما الهوى .

وفي منزل البنات جلست بثقة أشاهد الوسطى بينهن تعد الشاي ، سرعان ما سحرتني جلستها المكتنزة وطلباتها الكسولة العفوية من أختيها جلب " الولاعة والنعاع " وأنستني عوالم الحمى ومتاهات منزل أهل خيطور .

شأن معظم بنات الأحياء الشعبية لم تكن الأخوات شقيقات ولا متشابهات ، فالصغرى كانت تدخن بوقاحة أمامي وترسل رسائل مشفرة مفادها أن هذا الشاي ليس مجاني ، أما الكبرى فكانت تتنظر وافدا حان وقت زيارته لكنها لاتريد أن تفوت جلسة الشاي .

تجاهلت بلؤم- تعلمته من عمي - تلميحات الصغرى وأمعنت نظري في أختهن الوسطى ذات العينين اللتين لايمكن أن تولدا إلا من قصة حب ! 

كان الشاي " مجرورا " ككل أفعال فتاة الترحيل تلك وكان الليل الترحيلي الخالي من بعوض وصخب مدينة R متسامحا معي كي أستمتع بمراقبة كسولتي وهي تجلب الماء بدلال بعد أن رفضت الأختان مساعدتها .....

في الحياة أناس مولعون بإفساد لحظات السعادة النادرة يظهرون فجأة مثل " العين الحاسدة " لينتهي كل شيئ ومن هؤلاء عمي الذي يترصد لحظات أنسي كي يفسدها .

أنهى عمي جلسة الشاي تلك في حدود العاشرة ليلا بعد أنهى مهمته بالترحيل ! ثم ناداني : 

- هذا أطول من شاي تعال لتودع قريبتك ( هكذا نادى عمي بصوت بدوي جهور ) 

- حاضر ( هكذا أجبت بكامل غيظي ) 

ودعت خمسينية الترحيل الطيبة الجميلة والتي أخترع لها عمي لتوه إسما حركيا " قريبتك " 

وقبل ذلك كنت قد ودعت الأخوات الثلاث وأمهن ، لم ترد الصغرى أي تحية أو وداع لأنني حسب رأيها - وهي صادقة فعلا - " ماطايح مني شي " أما الكبرى فودعتني وهي شاردة ، وحدها الوسطى تمتمت بكلمات خجولة توحي موسيقاها أنها في مقام من مقامات القلب لم ينضج بعد .

حشرت مع عمي في المقعد الأمامي لسيارة مرسيدس مليئة بالأشياء الحادة وعند وصولنا " كرفور مدريد " كان جسمي مكتظا بالكدمات وقلبي مفطور من فراق معدة الشاي بالترحيل والتي لحد الآن لا أعرف أسمها .

من مدريد الى حانوتنا في مدينة R بدأ المارتون ثم انتهى وأنا ألهث عند الباب .

على غير عادته رن هاتف عمي وبحدس المؤمن رد على الهاتف ويداه ترتجفان ثم قال : " إنا لله وإنا إليه راجعون " متى متى ؟؟؟ رمى الهاتف الي كي أتلقى عنه بعض السهام الموجعة التى سددها اليه ذلك المتحدث من الجهة الأخرى .

أخذت السماعة مرددا بهستيريا ألو ألو ألو ألو ليأتي الرد وخزا باردا لكنه سام حزين قاتل حين قال محدثي : " رحم على أم لخوت 

استحضر عمي وهو الحافظ لكتاب الله كل الآيات التي وعد الله به عباده الصابرين عند المصيبة ، كانت تلاوته خاشعة راضية بقضاء الله ، ثم ساد الصمت ، منعتني مدامعي من التعرف بوضوح على زبونين قدما في تلك الأثناء وصرفهما عمي بلغة الإشارة ...

كان أنين الثلاحة مزعجا مثل نواح نساء الجاهلية وكان البعوض ينهش بإنتهازية تامة في جسدينا ولأول مرة ينتصف الليل ثم يزيد ساعة أو ساعتين - لست متأكدا - وعمي لم ينهرني لأطفئ الأضواء !

ومن هول الصدمة لم نحكم إغلاق أبواب الحانوت ليلتها ! 

أسند عمي ظهره على الحائط وانتحب نحيبا لايمزه عن القهقهة سوى دوران عضلات الوجه وشهقة بين الفينة والأخرى !

لا أجيد المواساة وأتلعثم دوما عند الكلام الجاد ، حاولت أن أستنجد بقاموسي المعجمي فبدا كعادته لئيما ضعيفا ، رتبتُ على كتف عمي وقلت : " إنا لله وإنا إليه راجعون " 

عند الحديث الموت يتعالى المرء على أمور كانت تزعجه في الأيام الأخرى لذا كانت تساؤلاتي أكثر عمقا و أقرب لحيرة الفلاسفة وددت لو ألتقي بشبح مريم فعندي أسئلة عن الموت والأرواح !

خرق عمي ذلك التأمل السقراطي فأنصت له وهو يقول:

( لست متعلما مما باب أحرى أن أكون طبيبا ولكنني لامست قلقا في وجه الطيبب المخبري وهو يسلمني فحوص المرحومة لم أرى له أي أثر في وجه الطبيب الأخصائي ، فعلا كيف لي أنسى شفاه ذلك المخبري النحيف وهي ترتجف عندما أخبرني عن ارتفاع حاد في هرمون- لم أعد أتذكر اسمه - لكن الطبيب المشغول حينها بإعلان الحزب الحاكم لمرشحيه في الإنتخابات البرلمانية لم يقرأ نتائج الفحوص التي كتبها لنا بخطه الركيك واكتفى بتجديد موعد للمرحومة ) 

عادت نوبات القهقهة الحزينة تختمها شهقة عميقة كلازمة موسيقية ثم تمالك عمي نفسه من جديد وقال " حسبي الله ونعم الوكيل " .

عدت لحيرتي الفلسفية 

-لماذا لم يمت أحد من معارفي إلا وصاحب ذلك لغط حول تقصير الطبيب او إهماله أو أدوية بلادي المزورة ؟؟( هكذا سألت نفسي ) .

لست متأكدا تماما ولكن تلك الليلة التي قضيتها في اكلينك تعزز إدانة الأطباء في بلدي ...

رن هاتف عمي مجددا فقمت بدور السكرتير : 

- آلو آلو 

- أنا محمد سالم أخبر عمك أننا لن نتظره بالصلاة والدفن نظرا للحر الشديد ولكننا سنتظره لإستقبال التعازي لقد كلمت سائق الرينو وقد دفعنا ثمن جميع المقاعد ليمر عليكم بعد صلاة الفجر مباشرة ( هكذا تحدث خالي من قريتنا ) 

أخبرت عمي بما حدثني به خالي في الهاتف فأشار برأسه إشارة تفيد الموافقة والتأكيد .

لا أدري هل غفوت أم غبت عن الوعي من فرط التعب لكن أذان الفجر أيقظني لأسابق الدقائق وأنا أحضر لسفرنا الى مرابع الأحبة

لولا الحياء لعاود عمي قهقهته الحزينة أمام نسوة الحي وهو يترجل من الرينو حافي القدمين مهرولا نحو مقربة القرية غير مكترث بوخز الرمال الحارقة .

كنت أكثر تماسكا رغم فشلي في حبس الدموع .

فضول غريب أو شعور لا أدري كنهه جعلني أجول بناظريي بين النسوة أبحث عن سارة مرسلة المساويك ، لكنها لم تكن بينهن ! 

جلس عمي عند قبر أم لخوت بضع دقائق ثم توجهنا الى خيام العزاء ! 

طيلة أيام العزاء الثلاثة كان عمي يتصدر المجلس ، يستقبل الجميع مكررا : " تقبل الله منا ومنكم " ، أحيانا يقولها في غير محلها لكنها على العموم كانت جوابا مقبولا لمقدمي التعازي ! 

في المساء تتزين الربى الناعمة جنوب القرية ليعرضن أنفسهن بحياء مثل صديقات العروس ، طيلة أيام العزاء كنت أتسلل في الليل المظلم رفقة أصدقاء الطفولة فنختار إحدى هاتك الروابي نديمة طيلة سهرتنا الماجنة .

كان رفيقاي يتوقعان مني أن أحدثهم عن ليالي انواكشوط ومطلقاته ذوات السيارات الفاخرة اللائي يصطدن الشبان ! وعن وعن .....

وكان رفيقاي يتوقعان مني أن أصطحب معي صورا وأدلة أوثق بها مغامراتي في مدينة الشيطان الملتحي كما وصفها رفقي حمود .

خيبتُ آمال رفاقي في القرية وخالفت توقعاتهم عندما كنت كثير الإنصات شارد الذهن ! 

لست أدري لماذا ترتبط نواكشوط في أذهان أهل المدن والقرى الداخلية بالفسق والفجور ؟؟؟ رغم ما يشوب الأعماق من أمور لايمكن أن تخطر ببال أفسق النواكشوطين !

تطوعت شمس القرية الحارقة بإيقاظنا من مرقدنا على إحدى الربى جنوب القرية ، وكنت قد أعتدت أن أعود الى خيام التعزية فور استيقاظي لأجد عمي يتوسط المجلس مكررا " تقبل الله منا ومنكم " .

انتهت أيام العزاء وركبنا الرينو قبيل المغرب بدقائق فبكت علينا الصحراء دما وبدت القرية من مرآة الرينو المنكسرة صابرة محتسبة هادئة رغم مايدور بأذهان مراهقيها من خبث ! 

على طول الطريق الرملي بدا كل شيئ يدثر برداء المغيب المحزن وعند وصولنا طريق الأمل ارتفع صوت عمي وهو يتلو أوراده وأذكاره أما سائق الرينو فبدأ يتحدث بفخر عن معرفته بكل الحفر في الطريق وحفظه لمرتفعاتها ومنخفضاتها .

طريق الأمل ذلك النهر الجامد الأسود الذي يتغذى على الجثث تماما كما كان نهر النيل قبل رسالة عمر الشهيرة .

إحدى الحفر اللعينة احرجت السائق الثرثار حين 

عرقلته بعنف فقد السيطرة على المقود ولم أعد أسمع او أرى شيئا حتى مضت ثواني أو دقائق لست أدري عندها سمعت عمي يكبر ويحمد الله وسمعت السائق بصوت مرتجف يقول : " لم يصب أي أحد " .

نزلنا كلنا من السيارة التي لم تنقلب لحسن الحظ رغم شرودها مثل مهرة عربية عصية على الترويض ! 

عاودنا مغامرة الأمل بسرعة أقل وثرثرة أقل أستأذن السائق عمي في تشغيل الموسيقى كي لاينام وبالفعل أذن له 

عندها تناوب الخليفة ول أيده وديمي وهما يجلدانني بسياط الطرب ولولا عمي لعلت تأوهاتي طربا من غناء الخليفة لعبد الرحيم البراعي : 

" قل للمطي اللواتي طال مسراها ......"

وأنا في قمة الطرب تذكرت مريم الشبح العاشق وتذكرت فتاة الترحيل الكسولة و سارة التى لم أصادفها في القرية ، تناولت ديمي السوط وبدأت تجلدنا بقول نزار : 

" سامحته وسألت عن أخباره وبكيت....." 

طالت رحلتنا عن وقتها المحدد لكننا وصلنا مدينة R ايذانا بإنتهاء رحلة كانت مضمخة بشذى الصحراء ، مبللة بدموع الحزن على أم لخوت ، مختنقة بأنفاس الخوف من طريق الأمل ،صريعة بسياط الخليفة وديمي .

منزل وسط نواكشوط 12 

كان الليل قد أحكم قبضته على ذلك الجزء من نواكشوط وكان سطح منزل أهل خيطور يغريني بكل ما زال يحمل في جعبته من بوح الأشباح وطلاسم السحرة ! 

- عمي سأذهب لأنام على سطح المنزل ( هكذا قلت لعمي ) 

- أجل بني لاشك أنك متعب ( هكذا رد العم بحنان غير معهود ) .

قبل أن يغير عمي رأيه أخذت فراشي غير الوثير بخفة النشالين وهرولت مثل الحجيج هرولة لا قداسة فيها الى السطح .

كان محمد الأمين يغسل دراعته بعناية منهمكا في التفاصيل يترنم بقول شوقي : 

يا نائح الطلح أشباهٌ عوادِينا            نشجى لواديك أم نأسى لوادينا؟

سلمت عليه فانتفض مذعورا كمن كان يتوقع شبحا لكنه استعاد توازنه و نفض يديه ، عانقني معزيا في أم لخوت ثم صاح ليخبر بقية ساكني المنزل فصعدت كمبه أولا وعبد الله رفقة الفتى المغربي ثم أتى بكاري قدم الكل العزاء بطريقته ونزلوا متمنين لي ليلة سعيدة ! 

وصل الليل ثلثه الأخير ولم تصعد كمبه في حين بدا ضوء شبح مريم وهي تصعد الى السطح مخيفا يميل الى لون الغروب أما صوتها فكان أكثر جرأة وترددا في أذاني ، اقتربت مريم على غير عادتها ثم سلمتني دفترا وقالت : 

( لقد تحررت روحي من تلك الغرفة الآثمة بفعل تلاوة الفتى المبارك عبد الله لكني قد بدأت حكايتي و لم انهيها ففكرت بأن أكتب لك البقية في هذه الدفتر ) 

ناولتني الدفتر فأخذته ويداي ترتجفان ! غادرت مريم 

في معركة استعادة الأنفاس ظهرت كمبه حاسرة الرأس ترتل طلاسمها المزعجة وتككر كلامتها غير المفهومة فكنت كمن يتلقى اللكمة الثانية وهو لم يفق بعد من الأولى 

تفننت كمبه ليلتها بإخافتي ! لا أدري هل تعمدت ذلك ؟ أم هو جزء من أورادها الشيطانية ؟ 

أذان الفجر أنهى ليلة من ليالي الجحيم في منزل أهل خيطور فعدنا الى روتيننا في الحانوت نبيع الكولسترول والنيكوتين و السيانيد وعاد زبنائنا يشترون المرض بالتقسيط بل ويستلفونه بإلحاح ! ثم انتهت موجة البيع الأولى في الهجير وأخرجت من ثنايا فراشي دفتر مريم !!

وزعت مريم مأساتها الى عنوانين فكان العنوان الأول : 

" ليالي 16 " تحت هذا العنوان كتبت مريم : 

( نادى نداء الواجب و أذن الرفيق أن حي على الكفاح فقرر الرفقاء بما فيهم ذلك القادم من موسكو أن أُزرع بين العساكر وعمال المخزن حيث يقصون سهراتهم الماجنة الهاربة من البعوض في الكيلومتر 16 شمال روصو وقد هيأتْ لهم مومس متقاعدة برتبة أدمرال عريشها ومرافقه .

حصلت بفضل مهارتي في البيلوت والبوكير و بعض القبلات المسروقة والمواعيد الكاذبة على مايهم الرفاق من مواعيد المداهمات وتفاصيل أخبار رجال الأمن وكنت المخولة الوحيدة لإعطاء الضوء الأخضر لموزعي المناشير الذين لايعرفون عني سوى الرفيقة " آنّا " .

ذاع صيتي بين المناضلين في انواكشوط و ازويرات وبتلميت حتى صرت أيقونة من أيقونات الكادحين أما في أوساط عساكر عريش 16 فكنت في نظرهم مجرد مكافئة لذيذة لمن يفوز في البيلوت أو البوكير أو لأحد الموظفين السامين الذين أدمنوا الحضور إلينا متخفين في عطلة نهاية الأسبوع .

كنت الرفيقة الوحيدة التي تبعد عنها الشبهة بأجود العطور الفرنسية والملابس الفاخرة ، فقد اعتاد ذلك الموظف السامي أن يجلب لي من نواكشوط كل أسبوع زجاجة عطر أو سوار ذهب أو فستان سهرة باريسي غير محتشم .

وطوال ليالي 16 كنت أدور بين النضال والعهر والكدح والبذخ والحب والجاسوسية ! 

أذكر من بين تلك الهدايا فستان سهرة بنفسجي تستحي فتيات الليل في بانكوك من ارتدائه كان معاليه قد جلبه لي من باريس وأصر أن أرتديه دون الملحفة و أنا أرقص ثم طلب مني وهو في قمة ساديته أن أغني له فغنيت بعض التبراع لكن الطرب ساقني عنوة الى أحد أشوار الكادحين : 

" يشعب انت أمالك بي متن التيليت " عندها استشاط الموظف السامي غضبا لولا تأثير الثوب وثلاثة أرباع الثدين لكان له معي شأن آخر لكنه بعد تلك الأمسية لم يعد الى العريش 16 وضواحيه وسمعت العساكر يتباشرون بتعينه سفيرا في أدغال افريقيا ) 

أنهيت مؤقتا تصفح مذكرات الرفيقة آنّا وعدت للبيع بينما بدأ

عمي يستعد للذهاب الى الترحيل  

استعد عمي للترحيل مثل أي مراهق خجول في موعده الأول، لبس ملابسه بشكل كاريكاتيري ووضع عطرا يزكم شذاه الأنوف لكنه قصير المدة لحسن الحظ ! 

غادر وبقيت وحدي أبيع لكمبه بعض الحليب المجفف والخبز ، ثم أتى عبد الله يسأل عن المساويك ، شعرت بغصة عند ذكر المساويك فتاسبق الى ذهني طيف المسكينة سارة مع صور أم لخوت توزع هدياها .

سلمتُ كمبه ما أرادت فغادرت وهي ترمقني بنظرة حيادية مستفزة ، اعتذرت لعبد الله عن المساويك فغادر وهو يبتسم .

ربما أكون غريب الأطوار بعض الشيئ لكني أكره نظرات الغرباء وابتسامات المخجولين ! 

هذا الانزعاج ترجمته خلال تعاملي مع الفتى المغربي صاحب اللحية الشقراء والقفطان القصير حين رفضت أن أستلف له ما يسد الرمق ريثما يأتيه المدد من رباط يعقوب المنصور .

صرفت يونس بلؤم ولم أشعر ساعتها برغبة في قراءة دفتر مريم لكن الدفتر كان له رأي آخر حين سقط دون أي تأثير خارجي من أعلى الثلاجة حيث كنت أخفيه .

فتح الدفتر نفسه عن صفحة بعنوان : " الأيام الأولى في الحجز " ، كتبت مريم تحت هذا العنوان :

( قضي الأمر ، وشت بي أعز صديقاتي ، تم اعتقالي بقوة لا تتناسب مع ضعفي وتم صفعي بقوة لا تناسب جمال وجهي الذي طالما تغنى به الرقيب فاضل و بسادية لايمكن لمركيز دي سادا أن يتخيلها تسابقت الي الأرجل والأيادي وكأنني وليمة ضيوفها شرطة متعطشون لدهس الضعفاء ، يطربون لأنين المتألمين ينتتشون لرؤية السجائر وهي تستبيح فخذاي مطفئة نيران شهوتها هناك .

لطالما تمنى الرقيب فاضل ورفاقه ملامسة تلك التضاريس بطريقة أكثر نعومة وأقل اشتركية لكن هيهات ، وحدها تلك الزنزانة القوادة هي من منحت " قطط لعريكيب " فرصة لمس حسناء مثلي ! 

لم أجد الوقت للبكاء فهو ترف لمن تستقبله شرطة روصو تلك الأيام وكانت وتيرة الضرب العشوائي أسرع من تفكيري فلم أجد الوقت لتفسير ما حدث لي !!!

يبدو أن المأدبة انتهت في وقت متأخر من تلك الليلة وفي اليوم الموالي تحديدا بعد منتصفه بقليل افقت على ماء غير طهور يغمر وجهي بسرعة تسونامي ، شهقت شهقة هجينة بين شهقة الحياة الأولى وشهقة السكرات الأخيرة ، شيئا فشيئا بدت صور المحيطين بي في الغرفة تتضح لي فرأيت المفوض مولاي ، وضابط من الدرك و أسويدي لكونه ! 

طبعا لم أستغرب وجود المفوض والدركي ولكني صدمت من وجود اسويدي لكونه وهو ستيني نحيف الجسم في وجهه ثقبان حفرهما البؤس وضنك العيش لطالما صال وجال بين محلات الحلاقين في الصطارة نهارا وفي الليل يكون شاهدا على ما يحدث من إثم في مساءات الحدود ، يعرف اسويدي بحفظه لألحان " ايدي بياف " دون حفظه للكلمات التي يغنيها بلغة تضحك كل من له أبسط إلمام بالفرنسية .

بعضهم يتهم اسويدي بالجنون وأحيانا بالسرقة وأشرف تهمه هي القوادة لكن " أسويدي لكونه " كما بدا من طريقة إدارته للتحقيق معي هو ضابط كبير في أمن الدولة آنذاك ..........

على غير عادته دخل عمي حانوتنا خلسة دون جلبته المعهودة ، كان عمي ساعتها شاحبا وفي صوته بحة لم نألفها !!

جلس على حصيرة كانت طيبة الذكر أم لخوت قد أهدتها لنا من بين هدياها الأخيرة وسرعان ما نام ، حتى شخيره ذلك اليوم كان حزينا ضعيفا تتخلفه فواصل من الصمت هي الأخرى دخيلة على سيمفونيات شخيره المعتادة .

منذ أيام الترحيل الأولى تولد لي شعور يشبه التشفي في مراهقة عمي المتأخرة وخلال كل عودة له الى الحانوت منشيا أزداد حنقا وغلا عليه لكنني اليوم أشفقت عليه ، نعم أشفقت عليه مثلما أشفقت قبائل وائل على المهلهل مساء عودته كسير الظهر ومثلما أشفقت جميلات روما على دكتاتورها موسو ليني بعد جره في شوارع روما .....

إستيقظ الفارس المترجل من الترحيل بعد أن فاتته صلاة العصر وطلب ماء للوضوء وصلى العصر في الحانوت ثم لبس قفطان البيع وبدأ يطفف لزبائنه في مدينة R .

باع عمي للزبون الأول والثاني والثالث وأنا صامت وعند خروج الزبون الرابع سألته : 

- كيف حال الأهل في الترحيل ؟؟ 

- بخير عندهم ضيوف يشغلونهم عنا ( هكذا قال عمي بنبرة المنهزم المتحسر ) 

بالكاد كتمت ضحكتي ثم ساد الصمت .

أدرك عمي سخافة جوابه فأنا لست صديقه ليشكو إلي إهمال زوجته .

- عندهم والد أطفالها ( هكذا أراد عمي أن يتدارك ما قال ) .

خلال إقامتي وانا مريض عند زوجة عمي السرية في الترحيل لاحظت طيبتها وكرمها لكنني لاحظت أن عمي بالنسبة لها مجرد مرحلة إنتقالية وأخشى ما أخشاه أن يكون محللا .

نظرت إلى عمى لعلي ألمح في أسارير وجهه ما يعزز فرضيتي تلك ، فكان التأكيد بوحا لا إشارة 

- بكل وقاحة طلبت مني الطلاق ( هكذا قال عمي بدون مقدمات ) 

وأخيرا تحررت تلك الضحكة الخبيثة على مراحل ثم استحالت قهقهة شيطانية مربكة متصلة مثل قطار ازويرات ولم ينهيها إلا حذاء عمي وهو يجتاز دفاعتي الأرضية محطما أنفي ليتبع حذائه بسلسلة من الشتائم توازي سلسلة ضحكاتي 

- أُُخرج يابن الحرام اخرج أيها الكلب الوضيع .......

خرجت من الحانوت وأنا أعدو عدوا عهدي به أيام المبيت في السبخة ، خرجت وقد إمتزجت دموع ضحكتي بدموع ألمي وعند مرَجِ الدمعتين قد سالت دمائي لتكون برزخا بين دموع الفرح العذبة ودموع الألم المالحة .

مدينة R تستعد لإستقبال الليل الذي تفضله على النهار لأن الليل يتجاهل وأحيانا يستر آثام تلك البقعة من نواكشوط ، لكن طيفا من قبس كان خارج أطراف معادلة الضوء والظلام في مدينة R قد أربك هندسة الإضاءة تلك الليلة حين أندلعت ألسنة النيران من منزل أهل خيطورة ..........

بدت ألسنة اللهب من نوافذ منزل أهل خيطور وكأنها نيران مدفئة في فندق بائس ! 

أما شرارتها فتطايرت بشكل عبثي مثل ألعاب نارية في إحتفال همجي ليلة الميلاد .

خرج بكاري ورشيد المغربي يصيحان وكأننا في إحدى معارك الأمير عبد القادر الجزائري ضد أجداد ألبيركامي ، حينها امتزج التكبير على طريقة خالد وأبي عبيدة مع صيحاتٍ من لغة نابليون ! 

مفاد ذلك الخوف الهجين أن أنبوب الغاز انفجر على عبد الله أثناء تبديله في المطبخ وبينما ألسنة النيران الكسولة تتجه الى حانوتنا خرج عمي يحمل كلما في الدرج من أوقية ودفتر مريم ظنا منه أنها كناش الديون ! 

تداعى الجيران من كل أزقة ومخابئ مدينة R كل يحثو بالتراب أو يرش بالماء الشحيح وفي كل حثوة أو رشة ألعن بقلبي إهمال الحماية المدنية وأتشفى بالبدو الرحل الذين أناخوا على شاطئ الأطلسي يخادعون العالم بأن لهم عاصمة وما يخادعون إلا أنفسهم ، فحين يهطل المطر أو تنفخر أنابيب الغاز أو حتى تنقطع فرامل سائق متهور تظهر نواكشوط العاصمة مثل طبيب بلا سماعات أو مهندس بلا خوذة و عريس بلا أصدقاء .

أخرجتني كمبه من تأملاتي المتطرفة حينما خرجت تصرخ بطلاسم تحمل بين ثناياها نكهة الرعب ثم وقفت بجانبي وقالت : 

- لن يخرجا أحدهما على الأقل هذا النوع من المنازل لايستغني عن  الأشباح وقد غادرته مريم !

ثم أضافت وهي تزبد مثل البعير " كنت أظنك الضحية الموالية " 

أحسست بجمود في ساقيي وجفاف في ريقي والأصعب من ذلك رغبة في الهرب لكن هيهات .

في تلك الأثناء وصل غيني سبق له العمل في عساكر بلاده فاقتحم المنزل وأخرج محمد الأمين بالكاد يتنفس ، وفي الجولة الثانية للبطل الغيني كان للنيران رأي آخر فقد حل الأجل وفاضت روح عبد الله- حامل كتاب الله - الى الله .

توقفت النيران دون مقدمات وكأن الحفلة انتهت بمغادرة الضيف الرئيسي ، تدافعنا كلنا بسذاجة الى داخل المنزل، أمرني عمي بلغة تشي أنه صالحني أن أحتفظ بكناش الديون كما يظن فأخذت منه برعشة دفتر مذكرات مريم .

أخذ عمي زمام المبادرة وبدأ يبحث عن خيط يوصله لأهل المرحوم عندها أخبره يونس بأن للمرحوم ابن خالة يعمل في سوق العاصمة لكنه لايعرف رقم هاتفه ثم أستقر رأي الجماعة أن ينقلوا جثمان عبد الله الى المستشفى الوطني ريثما يحل الصباح فيتصلوا بابن خالته .

توقفت تلك النيران الغريبة قبل أن تصل الى حانوتنا المستعد أصلا أن يعيد تجربة هيروشيما بفضل ما يحمله من معادن ثقيلة وغازات سامة !!

عرضت على يونس وبكاري ومحمد الأمين المبيت معي في الحانوت حتى الصباح ليمضي كل الى وجته .

إسلتهم الغيني الشهم من كرمي فعرض على كمبه أن تنام عنده فوافقت بطريقة أسرع وأكثر عقلانية من رفاقها الثلاثة الذين قبلوا عرضي على مضض .

تكدسنا أربعتنا بطريقة السردين في الحانوت فرق لنا البعوض ورثت الثلاجة لحالنا فخففت من أنينها ، ساد صمت مزيف مثل وقف إطلاق النار في الحروب الأهلية سرعان ما خرقه محمد الأمين وهو يتنحب ويقول : ( سبحان الله ما أقرب الدنيا من الآخرة ، كان عبد الله البارحة يحدثني عن عرسه في الخريف القادم وعن قريبته اليتيمة التي تحولت شفقته نحوها الى حب وعشق ...) 

تحدث كلنا بمواعظ من النوع المألوف ثم واصل محمد الأمين نحيبه : ( أتدرون الآن أن حبها له سيتحول الى شفقة ، يالله ما أصعب دوامة الحب والشفقة )

كأي شاب ولد في الصحراء صار عندي هوس لا يمكنني السيطرة عليه بتفسير الأحداث تفسيرا روحانيا يميل الى الماورائيات كل الميل .

هكذا قضيت ليلتي أفكر في دفتر مريم وكيف خُيل لعمي أنها كناش الدين ؟ أترى قد دخل عمي في حسابات أشباح منزل أهل خيطور ؟ وهل هو الضحية الموالي ؟

في صباح اليوم الموالي استيقظنا من مرقدنا في الحانوت مع طلائع خيوط الفجر الرمادية وتواطأ الكل على استخدام أشياء عمي ، استخدم بكاري قينة مستعملة من ماء طيبة كان عمي قد ثقبها ثقبا مجهريا و خصها للوضوء بينما استخدم محمد الأمين قطعة من صخر رسوبي يعود ترسبه للعصر الجوراسي كان عمي يستخدمها للتيمم قبل أن يغتسل أيام صولاته وجولاته في الترحيل ، حتى الفتى الرباطي المسالم فقد اتخذ من سجادة عمي فراشا لنومه وصلاته ، تلك السجادة من زمن أم لخوت كانت قد أهدتها لزوجها في موعدها قبل الأخير مع طبيب القلب المهمل .

أنا أيضا كنت من بين المستبيحين لأشياء عمي فقد عثرت صدفة على قطع من العيش اعتاد أن يجلبها خفية كل مساء من عند بائعة العيش والمساويك في الشارع الخلفي ل " موريتانيا ألوان " .

إختار عمي لعيشه مكانا قصيا بين المصحف والراديو واختار زمانا أكثر أمنا لتناول العيش حين يتأكد من نومي أو مبيتي على سطح منزل أهل خيطور ، ومن طقوس عمي الأمنية في تناوله العيش أنه يرتشفه بلحن موسيقي يتناغم مع اوركسترا الثلاجة حتى لا أنتبه .

سبب إخفاء عمي لعيشه هو ذات السبب الذي أخفى به ذات نزوة أهل الترحيل عن المرحومة أم لخوت فالعيش ضرة لوجبة شاحبة من المعكرونة نتاوب على إعدادها ، أحيانا يكون الدجاج ضيف شرف فيها وفي معظم الأحيان يكون لحم الغنم كومارسا !

في الصباح الباكر وعلى طريقة مراهقي الحواضر تناولت وجبة " أصبوح " حين مزجت عيش عمي بحليب الشايلة المحلي .

بعد الصلاة تناول يونس مواعين الشاي وبدأ يحاضر عن الفرق بين الشاي المويتاني والمغربي أما محمد الأمين فلم يخرج بعد من الصدمة وبكاري صامت بحياد تام لا يتناسب مع شهيته المفتوحة لكل ما أناوله له من خبز أو شاي ، وأغلب الظن أنه كان يريد مشاركتي في " أصبوح ".

عندما ناولنا يونس كأسه الثالث قدمت كمبه مسلمة على الجميع بنشاط غريب ، ناداها بكاري بوقاحة لا تليق بأساتذة الرياضيات المخضرمين فتفاجأ الجمع حين قال لها : 

- أهلا بالعروس لا شك ان العسكري الغيني الشجاع أطفأ حريقك البارحة 

- على الأقل هو يستطيع أن يفعل ما فشلت فيه انت ورياضياتك التي لا تعرف استغلال المساحات والأحجام ( هكذا أجابت كمبه بحديث يبدو ان له ما قبله ) .

لم أفهم قساوة درها إلا عندما ضحك يونس مثل ضحكات السكارى في حانات القنيطرة ثم ضحكت أنا ولكن بدرجة أقل ....

امتلأنا رعبا وكدنا نولي فرارا ونحن نطلع على ذلك المنزل الغامض ، سبقتنا كمبه الى الداخل وهي تتفوه بمقاطع صوتية متقطعة لو اجتمعت لصارت سمفونية تليق برقص الموتى ، ثم خرجت مذعورة خائفة وأشارت إلينا بالخروج وكان صوت نفسها خير منذر لنا و بالفعل خرجنا ثم ارتد باب المنزل وبعدها بدقائق عاودت النيران اشتعالها من جديد وأصبح المنزل في خبر كان 

*****

بعد ثلاثة أعوام من تلك الحادثة سمعت وأنا في غامبيا مع عمي الآخر أن مستثمرا أجنبيا إشترى أرض منزل أهل خيطور كي يقيم فيها فندقا من خمسة نجوم 

انتهى 

بقلم بابه أربيه

ثلاثاء, 22/12/2020 - 13:49