منزل الأرملة ( الحلقة الأولى )

هذه ليلتي الأولى في بئر الظبية ، كل شيئ في الصحراء متسع حد الضياع وفي الحمى كل الأشياء متداخلة حد الإختناق ..

في خيمة خالتي أميمة دفنا خصوصياتنا فلأول مرة أسمع شخير أمي و في تلك الليلة تعرضت لتحرش طفولي من ابن خالتي المراهق .

ولأنها ليلة أطول من اللازم أرى أنها الليلة المناسبة لأحكي لكم حكاية منزلنا في نواكشوط .

بدأ كل شيئ قبل ميلادي بسنتين حين تخرج أبي من مدرسة تكوين المعلمين بنواكشوط وزار خالته ، التي ربته ، زارها مزهوا بعمله الجديد فكانت مكافئة خالته هي أمي ، بنتها الصغرى الجميلة .

فرح أبي سالم بتلك المكافئة الفاتنة و سار بعروسه إلى نواكشوط .

في نهاية السبيعينات كانت نواكشوط تحتفي بالوافدين الجدد لذلك لم يكن من العسير على أبي أن يشتري قطعة أرضية و يبني عليها بهدوء منزلنا الذي اكتمل قبل ميلادي بأسبوع و بعد أربعين يوما من قدومي إلى الدنيا أنهى ابي تأثيثه ثم سكنا ثلاثتنا ذلك المنزل .

رغم كونها بنت خالته ورغم كونه الموظف الوحيد في عائلته ومحيطه الأسري إلا أن الجميع كان يحسد أبي على زوجته الجميلة جمالا لا يمكن لأكثر الناسكين الأتقياء أن يغض عنه البصر .

كانت أمي طويلة مثل صلاة الأنبياء ، سمراء مثل قهوة الشعراء لها عينان لو رآهما ملك طاغية من الغابرين لزين بهما تاجه ، أما أبي فهو أبي وكفى ! 

لا شك أن الفضول يروادكم الآن ، هل أنا جميلة مثل أمي أم رائعة مثل أبي و لاشك أنكم الآن مثل كاهن إفريقي تريدون معرفة اسمي واسم أمي .

أنا أسمهان سمتني أمي على حبيتها وفنانتها المفضلة أسمهان التي توحمت إيجابا على أغانيها فكانت تغني دوما " نويت أداري آلامي " و " كان لي أمل " .

أمي اسمها عيشه وهي سيدة تخرجت من مدرسة الحياة قسم الأمومة أما أنا فأستاذة في الثانوية أدرس الأدب الفرنسي ، وبالفعل أنا نسخة طبق الأصل من أمي .

نواكشوط 1980

حدثتني أمي عن تلك الفترة ذات أنس وبوح فقالت : 

( مذ سكنا منزلنا كان صالوننا فندقا مجانيا لكل الطلاب والتلاميذ و العساكر والعاطلين و كان أبوك فخورا بضيوفه رغم انزعاجه من نظراتهم التي تلاحقني مثلما تلاحق الهموم عاشقا مغتربا .

كنت يوم الأحد أعد وجبة الأرز والسمك التي أتقنتها على طريقة سيدات سان لويس ، وكنت ذائعة الصيت لدرجة أن أحد الشعراء البارزين كتب " طلعة " تناقلها الناس في التغزل بي من خلال ما أطبخه من الأرز والسمك " .

في تلك الفترة لم يكن نواكشوطيون يلقون بالا للفوارق الطبقية التي تواطأ عليها البدو فكنت بحق سيدة مجتمع أدعى لكل الحفلات والسهرات وتقتدي نساء كبار رجال الدولة بطريقتي في اللباس والزينة .

ذات مساء زارنا عقيد في اللجنة العسكرية الحاكمة للعب البيلوت عندنا ولما وقعت عيناه علي شغفته حبا وفي صباح اليوم الموالي اتصل بوزير التهذيب الوطني فتم تعين أبيك مفتشا بالوزارة وهي مهنة تحتم عليه دوام السفر و أثناء كل رحلات أبيك كانت سيارة العقيد ترابط عند باب منزلنا فصرت بطلة لكل أحاديث النميمة والقذف في صالونات نواكشوط .

داوم العقيد المستبد على زيارتنا كل مساء في غياب أبيك إلا أنه كان عف الضمير يرضى بكؤوس الشاي الثلاثة و يدخن في صمت ثم يرحل ، لا أخفيك يابنيتي أنني كنت أشعر بالزهو عند زياراته لنا وكنت أشفق عليه لأنني أرى تحت بدلته ونجومه إنسانا يفتقد للأمان ويرضى من الحياة بالقليل .

ولا أخفيك أيضا يابنيتي أن شعور الشفقة هو الشعور الوحيد الذي أحس به اتجاه كل الرجال من حوالي حتى أبوك أشفق عليه ونحن في أعتى لحظات حميميتنا ، وأشفق عليه في ضعفه وزهوه الزائف وغيرته الجبانة .

في ذات الفترة كنت أسمح خلسة لعمك الشاب أن يسترق النظر إلي وأنا أرضعك ولم أكن أظن ان الأمر سيتجاوز النظرات المحرمة حتى جاء ذلك الصباح البارد من يناير ، أذكر جيدا كيف حضرت لأبيك وعمك الفطور وكيف أغلقت علي وعليك الباب بعد مغادرتهما ، غادر أبوك إلى عمله وذهب عمك إلي الثانوية الوطنية حيث يحضر للباكلوريا ، وبعد نصف ساعة سمعت قرعا متوترا للباب وحين سألت من بالباب أجابني عمك بأنه نسي شيئا مهما ، فتحت الباب فأمسكني بقوة الشهوة ورماني على الارض بسادية مقرفة ثم مضت ثوان أو دقائق من العراك غير المتكافئ ، انتصر عمك و اخترق كل دفاعاتي ثم مضت دقائق قليلة وانتهى كل شيئ .

أشفقت أيضا على عمك المغتصب الذي جلس مثل المشرد في ركن قصي من المنزل وهو يبكى مثل الأطفال و يلعن الشيطان ، أتدرين يابنيتي أنني أيضا لعنت الشيطان وأشفقت على الأخوين ولم أخبر أحدا قبلك بالموضوع ، والأكثر قذارة في الأمر أنني حملت بأخيك طاهر في تلك الأيام .)

بئر الظبية 2019 

عاد النت متسللا إلى هاتفي في الرابعة فجرا مثل زوج عربي سكير يعود إلى منزله بعد سهرة خمرية بائسة ، عاد النت فرن هاتفي إيذانا بقدوم رسالة صوتية عبر الوات ساب من أخي طاهر .

يقول أخي : 

( أختي أسمهان اليوم قمنا بمظاهرات أمام القصر الرئاسي مطالبين بسداد ديوننا من الشيخ جعفر وسماسرته ، ثم جاءنا مفوض شرطة سمين وفرقنا بقسوة وتعرضت لكدمات مؤلمة لكن حذاري أن تخبري أمي بالموضوع ) 

ثم رن هاتفي ثانية فكانت رسالة ثانية من أخي طاهر يقول فيها : 

( ههههههه أختي أتدرين من هو المفوض السمين ؟ إنه المخنث شداد جارنا في" الحي L " الذي كنت تجربين فيه مكياجك ) 

ورن الهاتف فكانت رسالة صوتية أخرى من الطاهر : 

( أختي أتدرين أن المفوض شداد حين عرفني ركلني بحذائه الخشن على الوجه و سب أبي وأمي ونعتك بالعاهرة ههههههه ) .

انتهزت فرصة انترنت ثلث الليل الأخير وأجبت أخي برسالة مكتوبة : 

( أصدق ما قاله ذلك المخنث أن أختك عاهرة وأستخدمت إحدى غمزات الواتساب ) 

ثم استكثر النت علينا سهرتنا فاختفى .

أنا وأخي طاهر لسنا أخوين فقط بل صديقين صداقة غريبة فأنا أعتمد عليه ولا أطمئن إلا بوجوده إلى جواري لكنني لا أهابه على طريقة الأخت الشرقية بل أتحدث معه عن غرامياتي وتبذيري لجمالي .

أخي في نظر الجميع حتى عشاقي مجرد ديوث قواد ولكنه في نظري نعمة من الله وأروع أخ في هذه الدنيا أما أمي فكلما تقدم بها العمر ازدادت تدينا ومحافظة و بعد وفات أبي وحجها صرت أدخن خفية عنها و صرت أسهر مع رفاقي بالتواطأ مع أخي طاهر .......

بعد تلك المحادثة الواتسابية خرجت من خيمة خالتي لأدخن خلسة فبدا لي الأفق أنقى مما ينبغي ورائحة القطرة الأخيرة من قهوة الليل أكثر إغواء من اللازم وبدأت أحن إلى آخر ليلة أسرفت فيها بإرضاء جسدي ولكن ليل الصحراء لئيم مع الشهوانيات أمثالي .

الآن فهمت تفسير أخي طاهر لموقف الصحراوين المعادي للخمر! إنها الندرة التي تبعث على التبتل الزائف أحينا بل وأحيانا كثيرة .

قبل اختفاء النت كنت قد فتحت رابطا لمقال في موقع " أسرار المدينة " الأكثر مصداقية بين المواقع الإلكترونية الموريتانية وهو مقال لصحافي لامع يدعى وائل وهو أول من حذ من الشيخ جعفر .

أنهيت سيجارتي ودخلت خيمة خالتي أميمة فوجدت النت قد تصدق على بفتح المقال فبدأت أقرأ .

كتب وائل : 

(" السيبة " والماء أقوى ذاكرة من الإنسان وخصوصا الإنسان البدوي الذي يستوطن ديارهما ناسيا وفائهما الأبدي لكل الأماكن التي حلا بها ذات دهر .

طبعا لا ألوم الإنسان البدوي فهو رحالة ولا خبرة لديه في الإستقرار لكني أرثى لحاله حين اراد الإستقرار واختار نواكشوط التي كانت ذات زمان قاعا للأطلسي ووكرا للذئاب البشرية والطبيعية يتعاطون فيها من السيبة وقطع الطريق ما يشاؤون .

كل المؤشرات اليوم تؤكد حنين الأطلسي إلى نواكشوط وكل الجيولوجين ومهندسي المياه والصرف الصحي يدقون ناقوس الغرق .

أما السيبة فعادت بطريقة أكثر خبثا ومكرا ، فهي عادة مختبئة خلف عمائم الفقهاء والشيوخ وعادت تلبس عباءة المقدس ، وابتلع الطعم آلاف الأبرياء فتخلوا عن منازهم للشيخ جعفر وسماسرته تحت تخدير النصرة وكانت النتيجة أن منازل كانت تأوي الأمهات والأيتام والأرامل صارت ملكا لأناس آخرين والدولة تراقب بحياد تام .

أعرف سيدة مجتمع وأرملة معروفة في نواكشوط كان منزاها ناديا عريقا لكل النواكشوطين القدماء فقدت منزلها وغادرت نواكشوط إلى قريتها بعد زهاء اربعين عاما من الإستقرار الزائف ليصبح منزل الأرملة أساسا لعمارة قبيحة الشكل بدأت الآن تتطاول بوقاحة ........) 

حولت الدموع شاشة هاتفي إلى بحيرة من السراب ولم أستطع إكمال مقال الصحافي الرائع وائل .

تلك الأرملة التي اتخذها وائل مثالا في مقاله هي أمي و تلك النبتة الإسمنتية الخبيثة التى نمت مثل الإعشاب الضارة على ضفاف الأنهار هي العمارة التي غرست مكان منزلنا " منزل الارملة " .

يتواصل .....

بقلم بابه أربيه

أحد, 17/01/2021 - 21:40