الفقيد محمد المصطفى ابن الندى.. الأستاذ الأديب والباحث

(كنّا قد نشرنا في العدد الماضي الجزء الأول من هذا المقال التأبيني لفقيدنا محمد المصطفى ابن الندى وفي هذا العدد نواصل نشر الجزء المتبقي منه.)

شواهد على الخصال الحميدة 

إنّ الذي استمع إلى أخر أحاديثه في البرنامج الإذاعي "بيت السّاهرين" يدرك الحقائق التي قلناها سابقاً، ويدرك مدى سعة إطلاعه وعمق تذوقه الأدبي، وقوة العلاقة بين الأصالة والمعاصرة عنده، فقد أستعرض في ذلك الحديث الشّيق مسيرة الشّعر النبطي وشعر الموشحات وشعر الحسانية في محاولة جادة لتأصيل هذا الأخير.
ومن قرأ دراسته عن الأمثال الحسانية المنشورة في مجلة "الوسيط" يعرف مدى حرصه على تأصيل تراث بلاده، ومن قرأ دراسته: "رسوم المواشي في موريتانيا: الأشكال والدلالات التواضعية" في الموكب الثقافي العدد 19 يدرك مثابرته على إحياء التراث الموريتاني بأنواعه، الذي كان مطلعاً عليه إطلاعاً واسعاً. 
وقد أزداد الندى تمرساً بهذا التراث كلما اشترك في رحلات البحث والإستكشاف عن هذا التراث داخل البلاد أو ساهم في ندوة حول التراث العربي الإسلامي في باماكو أو تمبكتو أو النيجر...كما يزداد منهجيةً وتأصيلاً في كل بحوثه ودروسه وبذلك كان وفياً لثقافته التالدة والطارفة في أن واحد، ومحباً لها وصادقاً معها، لأن الحب والصدق من صميم تكوينه النفسي والعلمي وإدراكه ووعيه. 
ولقد كان الندى رحمه الله يركض يومياً لمساعدة أصدقائه بصادق الود وحجال الصحبة التي كان يؤنس صدقها، وفي سبيل ذلك كله يتحمل العبء المادي بشهامة نادرة. ومن هنا، فقد رأينا وسمعنا بمواقفٍ جليلة في هذا الميدان، ورأيناه يتولى أمانة حفظ "حياة موريتانيا" و صيانتها، و يكون عضواً فاعلاً ومحامياً براعاً في لجنة نشرنا دون أن يعزف عن العمل والتأليفِ والكتابة أو الإشتراك في الندوات والمحاضرات والمنابر الثقافية الوطنية والإقليمية، أو التقصير في إنعاش وسائل الإعلام المختلفة في رمضان و غيره. 
ولذلك ندركُ جيداً مزاياهُ في الخُلق والتكوين الذين جعلاه يبذل جهد العقل وتعب القلب، وهكذا كله ما يؤكد مدى أدائه الفطري الغني، وجزاؤه عند الله في ما أعطى ونفع به وتعذب في سبيل ابتغاء الخير والإحسان وتأصيل التراث الموريتاني وإحيائه. 

إن قراءة الإنتاج العلمي والأدبي المنشور والمخطوط الذي خلفه الأستاذ الندى تؤكد الجهد الكبير الذي بذله في تأصيل التراث الموريتاني وتحليله و إحيائه. وحفظه وصيانته. وتؤكد أن أوجاع الباحث الموريتاني قد اختزلت في أغلب تراث الندى كما في مقالته : " الأمثال الحسانية... متى و كيف"؟ بيد أن المدهش أننا بواسطة تراثه نعايش الأوجاع و الهموم الأكاديمية العامة التي يعاني منها الباحث الموريتاني، ولكن في لغة حميمية وصادقة لغة أب التراث الموريتاني وأخيه وصديقه، لغة نقية وسهلة، فنستغرب كيف كان لهذا الأستاذ والباحث الفقيه المتخصص في العلوم الشرعية أن يكتبَ لك تلك المقالات الدافئه، الجميلة، وبهذه الروح العلمية الموسوعية، يقول في مقالته ( وسوم المواشي في موريتانيا، الأشكال والدلالات التواضعية، وهوّ للتذكير أخر مقال نشرهُ قبل وفاته) :
"إن الحديث عن وسم مواشي في موريتانيا ذو شجون. واسمه الوسم والنار والعلامة بمعنى أن الحديث عن الوسم هوّ حديث عن أبواب من الثقافة والمعارف والتقاليد، ولك أن تقول: الوسم لغةً ونسب وسلالات، وشائج  ورباط وجنسية وتكافل وأبواب من علم الشهادات والحيازة و القضاء، وأبواب من السيرة النبوية العطرة، و إن شئت اجعله من أبوب الأدب" ( الموكب الثقافي، العدد المزدوج 19.20). 
وإنّ هذا النوع من كتابات النّدى مهم بالنسبة للمتلقي الموريتاني لأنها خلدت له تقاليده وعاداته القديمة ومهمة بالنسبة للكاتب الندى لأنها ساعدتهُ على الخروج من أسر التّخصص الضيق، فكانت ملاذه ورئته ومتعته في عصر التّخصص، وكانت أقرب كتاباته إلى نفسه وقلبه وترجمة لحبه لترثه الأصيل ووطنه، وحمله لهموم هذا الشّعب، لذلك كان يُكرر : "إنّ أي كتابة لا تحملُ الهم العام لن تكون ذا جدوى فهي جواز سفر وتأشرة دخول إلى الكتابة الحقيقية"

 

المصدر: أحمد ولد حبيب الله الأمين العام لرابطة الأدباء والكتاب الموريتانيين، مجلة الموكب الثقافي 2000. ص11.

سبت, 27/03/2021 - 10:29