الإذاعة الوطنية: من الريادة إلى البطالة!

في اليوم العالمي للإذاعة, كيف نستمع إلى الإذاعة الوطنية, صوت الدولة الموريتانية, وهي صامتة؟!

 

**

من داخل الإذاعة لا شك أن كل شيء تغير... لم تعد هناك المسجلة الثقيلة العملاقة "نگرا" لتسجيل كل الأصوات الخارجية: ابتداء بحديث المنمي والمزارع النائيين إلى خطاب رئيس الدولة في القصر الرئاسي... ولم يعد لكل مجتهد في الأخبار والبرامج عدته الخاصة للقطع والتركيب (المونتاج) المؤلفة من المقص واللاصق وشريط الوصل والفصل...

ولم يعد هناك جهاز الاتصالات بالراديو "ماركوني" - العسكري غالبا - للاتصال بالمراسلين والمندوبين وتسجيل تقاريرهم الإخبارية من أي نقطة من الوطن...

وحتى الرجل الفني المتقن القائم بأفضل تلك التسجيلات والاتصالات أحسن قيام لم يعد أحد يسمعه وهو يقول: "هيا، ابدأ العد التنازلي من 5 إلى 0 وانطلق"... أعني طيب الذكر أحمد التومي, رحل إلى رحمة الله وجنته.

كما رحل رجل الهندسة الصوتية ومؤسس الإذاعة الموريتانية وأبوها وأمها; الذي كانت عبقريته العصامية بديلا فعالا لنقص ونواقص التجهيزات والوسائل التقنية, ولها تذعن مشاكل "الاستديوهات" وتجهيزاتها الداخلية والخارجية (النقل والإرسال), أعني معلم الأجيال التقنيين المرحوم بلال ولد يمر طيب الله ثراه.

وهذان الرجلان وآخرون كان لهم بلاء حسن متطاول وفضائل راسخة في مسيرة إذاعة موريتانيا وتطور الجانب "الخلفي" منها, وهو الجانب التقني/ الهندسي الذي لا وجود لها دونه.

 

**

اخترت الكلام على هذا الجانب التقني في يوم الإذاعة العالمي, لأن الجوانب الأخرى الظاهرة, يتحدث عنها غالبا إخوة وزملاء نابهون مجربون... ولأني حقيقة أحب التقنيات عموما.

ولكن هناك سبب أهم من كل ذلك, سبب رئيسي لم أر من يتحدث عنه; إنه "الموت التقني" للإذاعة الوطنية, بعدما أهلك الإهمال والرداءة والفساد أجهزة إرسالها على الموجات القصيرة والمتوسطة!

والحق أن الموجات القصيرة (SW) قد أفل نجمها عالميا, وحذفها أكثر الصانعين من أجهزة الاستقبال, خاصة في السيارات, التي هي اليوم المكان الوحيد تقريبا للاستماع إلى الإذاعات خاصة في المدن... حيث تتفرد موجات التردد (FM) بالالتقاط الإذاعي; بل والتلفزيوني الصوتي أيضا, بخلاف لاقط الموجات المتوسطة فهو في جميع المذاييع!

وبما أن المدن والتجمعات الكبيرة التي وضعت فيها الإذاعة مرسلات fm قليلة وقوتها ضعيفة لا يتجاوز مداها الضواحي (60-20 كلم) فإن معظم البلاد الموريتانية لا يصلها بث الإذاعة الوطنية.

والمفارقة, والعجب, أن القرى الصغيرة والبوادي والقفار الواسعة, وهي أكثر من 90% من الخريطة الوطنية, هي التي يعتمد فيها الناس كليا على الإذاعات, بينما لا يستمع لها أهل المدن إلا لِماما في سياراتهم!!

 

وهكذا فإن تكن في قرية صغيرة أو في البادية, في أي مكان من الوطن, فلن يلتقط مذياعك سوى بث الموجات الطويلة والمتوسطة أو القصيرة... لتسمع فقط إذاعات الدول المجاورة وغيرها... ولا وجود لإذاعتك هناك, كما كانت موجودة حين كانت تبث على جهاز 1kw وميزانيتها بضعة ملايين من الأوقية!

 

**

الحاصل: الإذاعة الوطنية بوضعيتها البثية حاليا هي تبذير للمال العام بدون مردودية تذكر, لأن بثها كله مقتصر على المدن الكبرى, وتلك لا يحتاج إليها الناس فيها ولا يستمعون لها.

وربما لهذا السبب تحرص إدارتها الحالية على "تغيير جنسها" إلى تلفزيون حتى يراها الناس الذين لا يجدون الوقت ولا الرغبة في التقاطها... فباتت تنفق أموالها على محطات التلفزيون الخاصة وعلى الانتاج التلفزيوني بدل الانتاج الإذاعي...!!

ومن المؤكد أن هذه الأموال الضخمة المبذولة لإنشاء وإدارة محطات fm القصيرة المدى... يكفي بعضها لإنشاء محطة إرسال قوية على الموجة الطويلة (LW) أو المتوسطة (MW) تغطي كافة التراب الوطني وتتجاوزه كثيرا; وبالتالي تغني عن هذه المحطات كلها أو توازيها كما كان الحال قبل أن ينسفها الفساد!

                               م. محفوظ أحمد

 

أربعاء, 15/02/2023 - 00:30