المخطوطات الموريتانية في المكتبات العالمية

توجد في موريتانيا مخطوطات كثيرة، ولا يعرف إلى اليوم عددها بالتحديد ولعل خير دليل على ذلك التباين الكبير بين الأرقام المتداولة في هذا المجال والتي تتراوح بين ثلاثين ألف وثمانين ألف مخطوط. مع بداية الثمانينيات من القرن الماضي وبسبب الحملات التي قيم بها من طرف الهيئات العمومية المختصة (المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، المعهد الموريتاني للبحث العلمي) بالإضافة إلى الباحثين المختصين، تولد وعي جماعي بضرورة الاهتمام بالمخطوطات وتغيرت النظرة الضيقة التى كان ينظر بها إلى المخطوط، فلم يعد هو ذلك الإرث العائلي البحت بل اكتسب قيمة علمية وتجارية حقيقية. فكان ذلك هو المنطلق الأول لإعادة الاعتبار لمكتبات المخطوطات. وتم في خضم تلك التفاعلات تجديد وصيانة عدة مكتبات.  وقد تغير الحال في هذه المكتبات فلم تعد أبوابها موصدة في وجوه الزوار وصارت المخطوطات في ظروف حفظ أحسن. وتغيرت عقلية ملاك المخطوطات وازداد حماسهم ورغبتهم في المحافظة على هذا التراث القيم الذي يتوقع أن يعود بالنفع المادي والمعنوي على صاحبه. لكن هذه الوضعية الجديدة خلقت عقلية نفعية إلى حد ما بحيث صار المخطوط وسيلة مدرة للدخل مما أدى إلى احتكاره أو حتى الاتجار به في حالات كثيرة. وأذكر هنا ما حصل لمكتبتنا الأسرية ذلك أن جدنا سيدي ولد حمادي رحمه الله تعالى (1894-1988) كانت له مكتبة في الدار وبعد أن ضعف بصره كنت، وأنا شاب يافع، أقرأ له منها مختارات. وبعد وفاته رحمه الله تعالى وتبدل الأحوال زار بيتنا في تنبدغه أحد "تجار" المخطوطات وأغرى أهل البيت بوعود خلب أنه يريد نقل هذه المخطوطات إلى نواكشوط لصيانتها ثم إرجاعها. وما كان من ذلك "التاجر" إلا أن باع تلك المخطوطات للمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية في نواكشوط وما تزال إلى يومنا هذا في مكتبة المعهد. وقد صدق المثل الذي يقول: رب ضارة نافعة. فمكتبة الجد اليوم محفوظة في مباني المعهد ولربما كانت قد أصابها التلف بسبب ظروف الحفظ لو بقيت في تنبدغه.

رغم ذلك فإن من المهم أن يطلع العالم على ما تمتلكه موريتانيا من تراث ثقافي مخطوط بل لا أرى غضاضة في أن يتاح للجميع إمكانية الاطلاع عليه عن طريق الرقمنة والنشر على شبكة الانترنت. حجب المخطوطات عن متناول الباحثين ليس سوى نوع من منع العلم عن الناس والشرع ينهى عن ذلك. وأتذكر هنا كلمة قالها مدير الفهرس العربي الموحد بمكتبة الملك عبد العزيز بالرياض الدكتور صالح المسند خلال زيارته لموريتانيا حين لاحظ عدم تحمس ملاك المخطوطات لنشرها فقال كلمة ذات دلالة عميقة، قال: "من العيب أن يبذل غيرنا المال لنشر الرذيلة وإشاعتها بين الناس ونمتنع نحن عن نشر العلم ونسعى لاحتكاره".  

ومن محاسن الصدف التي تثلج صدور الباحثين المهتمين بالتراث الموريتاني المخطوط أن كثيرا من مخطوطات المكتبات الموريتانية تم نقلها خارج الوطن في ظروف مختلفة وهي موجودة اليوم في بعض المكتبات الكبيرة خارج البلد حيث تحظى بما تستحق من عناية وصيانة. وأكاد أجزم أن 70% على الأقل من محتويات تلك المكتبات تعود لأصول موريتانية.  وأخص بالذكر المكتبات التي زرتها شخصيا ومنها مكتبة مركز أحمد باب و مكتبة مما حيدرا في تنبكتو بدولة مالي و مكتبة المخطوطات الشرقية بباريس وبها قسم خاص للمخطوطات التي استولى عليها الجنرال الفرنسي الاستعماري لويس أرشينارد (الصورة) ArchinardLouis أواخر القرن التاسع عشر عندما احتل منطقة السودان الغربي فأخذ مكتبة آل الشيخ الحاج عمر تال الفوتي المجاهد ويبلغ عدد كتبها المئات منالمخطوطات. وكانت زاخرة بمؤلفات العلماء الشناقطة وهي اليوم ترقد في مكتبات باريس. 

وفي مكتبة أحمد بابا التنبكتي كانت توجد نسخة نادرة ولعلها الوحيدة من كتاب (منح الرب الغفور في ذكر ما أهمله صاحب فتح الشكور) وهو كتاب في التاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي للمجتمع الموريتاني قبل نشأة الدولة الحديثة تم تحقيقه من قبل الكاتب ونشرت طبعته الأولى عام 2014 كما تمت ترجمته إلى اللغة الفرنسية.  ورغم أن مؤلف الكتاب هو أحد أعيان من مدينة ولاته الموريتانية إلا أن الكتاب انتقل في ظروف غريبة إلى فرنسا ليعود بعد ذلك إلى إفريقيا وتحديدا إلى تنبكتو. وقد قص علي رحلة الكتاب الدكتور محمود عبده الزبير (الصورة) وهو مؤرخ وسفير سابق لدولة مالي لدى المملكة العربية السعودية ومستشار سابق للرئيس المالي أمدو تماني توري.

فقد أخذ الكتاب من مدينة ولاته حاكم من الإدارة الاستعمارية الفرنسية وسافر به إلى فرنسا ووضعه في مكتبته الخاصة ولما توفي بقيت المكتبة عند أرملته. وبعد ذلك بسنوات وصل إلى فرنسا السيد محمود عبده الزبير وكان وقتها يحضر رسالة الدكتوراه في جامعة فرنسية. فاتصلت به أرملة الإداري الفرنسي وأطلعته على ما بحوزتها من مخطوطات عربية وأعربت عن رغبتها في تسليم هذه الكتب إلى جهة إفريقية حتى تعود الكتب إلى الأفارقة الذين هم أهلها الأوائل حسب قولها، مضيفة أن جهات غربية عرضت عليها شراء تلك المخطوطات. وبالفعل فقد اتصل السيد محمود عبده الزبير بسفارة بلاده في فرنسا ورتب لقاء مع السيدة الفرنسية وتم خلاله تسليم مجموع المخطوطات مقابل مبلغ مالي تم تحديده سلفا.

وهكذا انتقل المخطوط من فرنسا إلى دولة مالي وتم وضعه في مكتبة أحمد باب للمخطوطات في تينبكتو.  ثم زار مدينة تينبكتو أوائل تسعينيات القرن الماضي باحث أمريكي يدعى تيموتي كليفلند Timothy Cleveland وكان يعد رسالة حول مدينة ولاته وقد صدرت بالفعل تحت عنوان Becoming Walata فهذا الباحث الأمريكي لما رأى المخطوط صوره وأعطى نسخة منه لأحفاد المؤلف في مدينة ولاته. وفي عام 1993 اطلعت على تلك النسخة المصورة في مدينة ولاته فقررت أن أقوم بإخراجها في إطار رسالة الإجازة في التاريخ وقد تم ذلك بحمد الله عام 1994.   ثم بعد ذلك بفترة سافرت إلى تينبكتو في إطار إعداد رسالةالدكتوراه في جامعة السربون حيث وقفت مباشرة على تلك النسخة الوحيدة من الكتاب وقد قمت بترجمة الكتاب إلى اللغة الفرنسية في إطار الرسالة. وقد كان ذلك قبل استفحال ظاهرة الإرهاب المسلح. ونعلم جميعا ما آلت إليه حال مكتبة أحمد باب في ظل تدهور الأوضاع الأمنية، فقد تعرضت لحريق كبير أتلف كمية كبيرة من مقتنياتها من المخطوطات وتم نقل البقية في ظروف غير ملائمة إلى العاصمة باماكو. والسؤال المطروح الآن هو عن ما إذا كانت تلك النسخة الوحيدة من الكتاب قد ضاعت إلى غير رجعة ؟ ذلك ما أخشاه.

من هنا تكمن الحاجة في انتشال هذه المخطوطات ذات القيمة الكبيرة ليس فقط لموريتانيا بل لأنها تشكل امتدادا طبيعيا للثقافة العربية الإسلامية في دول المغرب العربي وفي الأندلس. 

 

يتواصل...

 

د. محمد الأمين حمادي

 أستاذ التاريخ بجامعة نواكشوط

 

 

سبت, 09/05/2020 - 14:42