في حضرة الرئيس معاوية/  الحلقة الثانية

 عند الثانية عشر إلا الربع من يوم الإثنين 17 سبتمبر 2001 م نزلت بالبدلة الرسمية إلى حيث مكتب قائد الأركان  . كان هناك باص كبير و جديد متوقف  أمام المبنى في وضعية انتظار .
 ثم توافد القادة بمن فيهم قائد الأركان نفسه و مساعده .
 ركب الجميع في الباص الذي انطلق نحو الرئاسة . كان بداخله  إضافة لمن ذكر آنفا بعض مستشاري قائد الأركان (2؟ ) و قادة المكاتب (4)  و مدراء إدارات الخدمات بالأركان (4) وأيضا  إدارات السلاح (4؟ ) وأخيرا قائد المنطقة العسكرية السادسة .
لما وصلنا وجدنا أمامنا وزير الدفاع الوطني و أمين عام الوزارة و المفتش العام للقوات المسلحة والآمر بالصرف في وزارة الدفاع  و المستشار القانوني للوزير؟ 
 من جهة أخرى كانت قيادة الدرك الوطني موجودة بكامل طاقمها يتقدمها قائد أركان الدرك الوطني شخصيا .
و أحسب أيضا أن قائد الأركان الخاصة لرئيس الجمهورية و مدير الديوان العسكري بالرئاسة كانا حاضرين ؟
كانت القاعة واسعة وبها مقاعد وثيرة مرتبة على شكل بيضاوي . 
لم أكن غريبا على المكان إذ سبق  أن عينت فيما مضى  و لأربع مرات متفاوتة كمرافق عسكري مؤقت لرؤساء زائرين لموريتانيا .  
أخذ الجميع أماكنهم ، بعضهم  كانت محجوزة لأصحابها أصلا أما البقية فقد انتظموا في  الجلوس حسب التتابع في الأقدمية . 
أخيرا دلف الرئيس إلى داخل القاعة حيث بادر  بالمرور على الجميع يصافحهم فردا فردا ثم جلس في مقعده  المخصص و الموجود في وسط  الجهة الشمالية . 
كان على يساره وزير الدفاع الوطني ثم  قائد الأركان الوطنية فمساعد قائد الأركان وهلم جرا . و على يمين الرئيس جلس أمين عام وزارة الدفاع الوطني و لا زلت حتى الآن  أتساءل عن المعنى البروتوكولي في كون الوزير جلس على اليسار و ليس على يمين الرئيس؟
   بعد الأمين العام جلس المفتش العام للقوات المسلحة ؟ فقائد أركان الدرك ثم كان  الجلوس بعد ذلك حسب تتابع الأقدمية من الجهة الأخرى . 
ولأني الأقل أقدمية فقد كنت في مكان قصي تماما ولكنه جد مناسب لأنه مقابل تماما لوجه الرئيس .
قبل التعرض لمجريات الإجتماع أريد التنويه ابتداءا بأني كما لم أذكر إسم أي شخص من شاغلي الوظائف فلن أتعرض أيضا لتفاصيل مضمون  مداخلاتهم و لا انسب قولا لقائل إلا ما كان من حديث السيد الرئيس نفسه أو تدخل مني شخصيا .

ثم افتتح السيد الرئيس الجلسة قائلا  تقريبا ما يلي :
" إن الإرهاب  قد ضرب في أمريكا ضربته كما شاهدتم وهو عندما يفعل هكذا بمثل هذه الدولة العظمى فمعناه أنه لم يعد يلقي بالا لأحد  و مستقبلا لن يقيم إعتبارا لأي دولة أخرى . 
و نحن كما تعلمون قد تنبهنا مبكرا لهذا الخطر الداهم منذ سنوات و قد تعاملنا معه بحزم و بما هو مناسب حينها و سمى تنظيم (حاسم ) أي اعتقالات الإسلاميين في منتصف التسعينات كما أستحضر في ربط  ضمني افتتاح دولة معينة سماها  لسفارة لها بإنواكشوط في تلك الفترة .
ثم أضاف إن هذا  الإجتماع جاء لتدارس الوضع و محاولة الإجابة على  أسئلة ثلاث طرحها و هي على التوالي :

1- لماذا و كيف حدث ما حدث لأمريكا ؟
2- ثم ماذا تريد أو تستطيع  أمريكا فعله بأفغانستان ؟
3- وأخيرا ماذا يترتب علينا في موريتانيا عمله إزاء هذه المستجدات أو لحماية أمننا ؟ 
وعلى طول  بادر الرئيس فطلب  أولا من مدير الطيران  العسكري - بحكم التخصص ربما - الإدلاء برأيه حول ما طرح .
و قد قدم المدير عرضا مناسبا على ضوء المتاح لديه من المعلومات و الإفتراضات . 
لكن الرئيس رجع ليقول له فلان ناداه بإسمه : أنت خبير وكررها . َ
ثم طلب تاليا  التدخل من قائد المكتب الثالث و هو المسؤول عن شعبة التخطيط والعمليات في الجيش  و قد تدخل بما تدخل به . 
ثم أعطى الرئيس في المرحلة الثالثة الكلام  لقائد المكتب الثاني ( و هو  بمثابة شعبة الإستخبارات العسكرية ) فأعطي  الأخير رأيه أيضا. 
ثم طلب رأي مدير البحرية لكنه لم يكن حاضرا بنفسه أو ممثلا بمساعده  و عندها طلب الرئيس من قائد المكتب الثالث أن يعطي رأيا من منظور البحرية في الموضوع . 
بعد هؤلاء الأربعة تم فتح النقاش على مصراعيه و أضحت التدخلات حرة  لمن  يطلبها . 
فتدخل الكثيرون غالبيتهم العظمى من منتسبي الجيش بفروعه المختلفة .
 لكن  بعد أكثر من ساعة من التداول كان ثمة حرص من الرئيس على تجاوز أي تحفظ لذا فقد طفق يحض على مزيد من الإنغماس أكثر و أكثر  في صلب الموضوع (le vif du sujet) . 
وللإشارة إلى ما يريد ، فقد أخذ يشير بيديه في حركة يدخلهما عبرها عميقا في الفراغ أمامه . 
و في مرحلة لاحقة تدخل قائد الأركان نفسه ثم  قائد الأركان المساعد و أيضا أمين عام وزارة الدفاع وغيرهم من الرتب العليا .
و على ضوء المداخلات الأخيرة لكل اولئك القادة فقد حصل لدي الاطمئنان بأن الهدف من الإجتماع ربما كان طبيعيا و ليس فخا منصوبا لأحد أو رغبة في استنطاقه . وهذا مما استثار لدي أسئلة جديدة حول الموجب الفعلي للإجتماع و المغزي الحقيقي لما هو مطروح فيه؟ 
و طبعا فمن المعروف أن بذل النصح هو واجب شرعي و لا سيما إذا كان مبذولا لولي أمر  يطلبه و في نازلة جادة و خطيرة كالتي نحن بصددها .
لقد اعتقدت دائما بأن  للسيد الرئيس معاوية تصورا متضخما عن بلده أو لنقل فهو مسكون بنوع من "عظمة موريتانيا" بحيث يعتبرها  "شبه قوة إقليمية" !
 فلعله من منظور ذاتي و شخصي كان معنيا بعقد مشاورات او موًتمرات أمنية موسعة اقتداءا بما حصل في الدول المهمة حول العالم و أظهرت  شاشات التلفزة بعضا منها كما لدى الأمريكيين و الباكستانيين على سبيل المثال ؟ 
و في الحقيقة فالرئيس بالفعل  يركن عادة في المواقف الحاسمة و الإشكالات الكبرى  لسماع رأي العسكريين لأنهم أهل خبرة احترافية متراكمة
( corps de carrière  )  
و لأنهم  عادة  بحكم تكوينهم وعقلية اجتماعات أركان الحرب التي يدرسونها و يتمرون عليها فهم في الإجتماعات المغلقة الحاسمة يبدون آراءهم بتجرد وصدق إذ ليست لديهم في الغالب حسابات الخشية على الوظيفة التي  قد تكون عائقا لدى غيرهم . 
 ثم إن الرتب  العسكرية العليا لا يصلها أصحابها إلا في سن النضوج التام  و بعد مسار طويل من تراكم  الخبرات وتحصيل التأهيلات يمتد بهم أحيانا لعشرات السنين في حين ان مناصب أخرى كالوزير او المدير قد تكون في بعض الأحيان من نصيب  خريج أو صاحب حداثة في السن أو في التجربة لأنها في الحقيقة تتبع منطقا آخر و ذات متطلبات مختلفة . 
 شرعت أرتب أفكاري بحذر استعدادا لإمكانية المشاركة في النقاش وبين عيني دائما أنه إذا استنصحتم فانصحوا.
  مع ذلك بدت لي وجود مبالغة كبيرة في مقارنة  الرئيس الضمنية  بين جماعة محمد عطا التي فجرت طائرات أمريكا مع بعض المعتقلين في إطار قضية (حاسم ) و الذين ليست لهم صلابة أهل القاعدة و لا رسوخ قناعاتهم  المتطرفة بل أذكر حينها أن بعضهم ظهر على التلفزيون معتذرا أو ملتزما على نفسه  .
و لإيجاد تفسير ما لذلك الربط  تبلور عندي افتراضان و هما :
اولا -إما أن  الرئيس يريد استغلال الظرف الدولي المواتي لتصفية حساب قديم معلق مع الطيف الإسلامي أو للمباشرة في تحرك إجهاضي وقائي من شيء يخشاه منهم ؛ 
ثانيا -  أو أنه يظن أن من المتعين عليه تقديم واجب ما من فروض الولاء لأمريكا المكلومة عبر التقرب لها بنوع من التضييق على الإسلاميين في بلده و هو ما لم يكن النظام  بحاجة له اصلا  نتيجة وجوده في وضعية انغماس تطبيعي  مع إسرائيل .
 لذا نويت في تدخلي أن أتكئ على موضوع  التطبيع لبعث روح الطمأنة و لكن كان استخدام التعبيرات المناسبة  تبدو مسألة شائكة . لذا حاولت جاهدا إنتقاء عبارات توحي من سياقها بإيجابية معينة لتلك العلاقة فخلصت بعد كثير تقليب وجوه إلى وصفها ب "التميز" وهي عبارة حمالة أوجه  او لنقل ذات استعمال مزدوج  . 
و على كل حال فنازلة "التطبيع" بذاتها هي  موضوع حساس يستحق كلاما خاصا به .
ثم إني عزمت التعرض  للنقطة الدقيقة (point délicat) التي ظل تفادي الخوض فيها مطردا ألا وهي السلوك إزاء من دعاهم  الرئيس ب"حاسم" و هو ربما يقصد بالمضمون  كل من يطلق عليهم في العموم التيار الإسلامي او الإسلاموي  في موريتانيا . 
 و قد تمنيت لو حصل  لي التوفيق في إيجاد منطق يسهم - ولو مرحليا - في انصراف الرئيس عن خيار التصعيد إزاءهم في مثل هذا الطور من سورة غضب البركان الأمريكي و  الهيجان العالمي . 
و للحقيقة  فلم يكن غائبا تماما لدي استحضار النية في تحصيل ثواب ما  من راء ذلك. 
و أخيرا و بعد أن صار جاهزا عندي مضمون التدخل، استجمعت ما عندي من شجاعة ورفعت يدي طالبا الكلام ويبدو ان ذلك كان متزامنا مع طلب من متدخل آخر . 
و لأني كنت في خط  الرؤية المباشر للرئيس و ربما أيضا  لأني الأحدث سنا و الفضول أكبر لديه فيما عساي أقول فقد أعطاني الرئيس الكلام أولا .
للتذكير أبدا لم أسمع فخامة الرئيس معاوية ينبس ببنت شفة واحدة بالفرنسية على طول اللقاء إلا إني  مع ذلك كنت شخصيا حريصا على  التطعيم ببعض الكلمات القليلة من الفرنسية رغبة في توصيل أمور معينة له بالشحنة المطلوبة . 

و الخلاصة "المحررة" لتدخلي يومها  كانت تقريبا  كما يلي :

 " السيد الرئيس هذا الذي حدث في أمريكا هو  شيء خطير جدا  و غير مسبوق . فلأول مرة تهاجم أمريكا في حرمها و قدس أقداسها   Le sanctuaire américain   . 
و هذا لم يحدث من قبل أبدا، لا في الحرب العالمية الثانية و لا التي قبلها. و هجوم اليابان الذي  أدخل أمريكا الحرب العالمية الثانية كان على ميناء " بيرل هاربور" وهو في جزر "هاواي" النائية في المحيط الهادي و لم يكن على البر الأمريكي نفسه . 
 وبالتالي فأمريكا تبدو مطعونة في كبريائها و تعتبر كرامتها مداسة. 

-ثانيا ماذا تريد أمريكا أن تفعل ؟ 
إن أمريكا حتى  الآن لا تعرف ماذا تريد ولا ما ذا ستفعل بشكل كامل و واضح و نهائي. 
إن بلورة  مثل ذلك ستتم  مع الوقت  في مطبخ الوكالات الحكومية و بالتعاون  مع  مراكز الدراسات و جماعات think tank  و مراكز الجامعات أي كل المؤسسات البحثية . 
 و مع ذلك فأمريكا  تريد أن تنتقم الآن ودون تأخير  لذا فهي قررت صب جام غضبها على أفغانستان التي ستغزوها دون تروي . و أفغانستان بالنسبة لها  عدو نموذجي لتوقيع عقاب فوري شديد  فهي دولة مسلمة يحكمها نظام إسلامي و هو بالنسبة لأمريكا نظام "ظلامي متطرف".
 و أكثر من ذلك  فأفغانستان تستضيف تنظيم القاعدة  وزعيمه أسامة بن لادن كما توفر له الحماية و تأبى تسليمه .
 ثالثا : ما ذا يمكن لأمريكا أن تفعل  بأفغانستان؟
 أمريكا بما لديها من أسلحة تقليدية و غير تقليدية في البر و البحر و الجو يمكنها القضاء على جميع مظاهر الحياة في أفغانستان أحرى ان تلحق بهذا  البلد  الحبيس هزيمة عسكرية ساحقة، لكن هل سيكون مقبولا لها الشطط وتجاوز الحد  فيما ستفعل ؟ ليس الأمر كذلك . فالعالم قد يتفهم أن تنتقم أمريكا في حدود معينة لكنه لا يقبل أكثر من ذلك .
و على كل حال  فالهدف الذي وضعته أمريكا معيارا لنجاح  حربها  هناك  و هو الحصول على   رأس "بن لادن" حيا أو ميتا لا يمكنها التأكد من تحقيقه و لا الوقوف عليه . 
فهي قد تنجح في قتل بن لادن بالفعل لكن أصحابه  سيدفنونه ويقولون دائما أنه لا يزال حيا يرزق .
ثم إن هنالك  تعقيدات جيبولوتيكية في الموضوع . فأفغانستان هي الحديقة الخلفية لباكستان و أمريكا الآن بصدد  إستخدام تحالف الشمال كقوة تتقدم بها على الأرض و هؤلاء هم من قومية
  " الطاجيك" الموالية للهند التي كانت تساعدهم فيما مضى ضد طالبان البشتونية المدعومة من باكستان . فوصول تحالف الشمال لكابول و حكمه لأفغانستان سيجعل باكستان بيت فكي كماشة خطيرة  ومحاطة من اخطر أعدائها في جانبين :
-* هؤلاء الحكام الجدد في كابول من جهة، 
* و في الجهة الأخرى الهند العدو التقليدي التاريخي . 
لذا فمن أجل الفكاك من الطوق 
 Et pour  desserrer  l'etau
 فقد تجد الدولة الباكستانية نفسها مجبرة لخوض حرب مع الهند و لو بتصعيد نووي خطير عسى أن  تخلط  بذلك الأوراق .

 -  و أخيرا وصلت لبيت القصيد في المداخلة :
أما يا سيادة الرئيس فبالنسبة لنا في موريتانيا فنحن الدولة الوحيدة الآن  التي هي في وضع دبلوماسي مريح
En bonne posture diplomatique. 
و ليس مطلوبا  منا اي شيء إذ نحن لدينا موقف "مميز" من السلام في الشرق  الأوسط .
أما شعبنا فهو شعب مسالم وعنده عذرية (virginité) و لا يمكن أن يقول لنا  فيه أحد أي شيء أو نصدقه في ذلك .
 و كما يقال في المثل " إجينا من عند أهلنا إل إحن أخبر منه". عندها  هذا الحد  كنت كمن يعود شعوريا إلى الأرض  و إلى  التحديق في الحضور من حوله إذ كنت  في شبه غياب عنهم خلال أدائي للمرافعة فنظرت إلى جهة الرئيس  فإذا  أحد القادة الكبار  القريبين منه و هو كمن يضحك بشكل مكتوم ثم تقابل أخيرا نظري مع  نظر الرئيس الذي رفع يده  و أعادها نحوه كما لو كان يسترجع مني الإذن بالكلام . عندها كررت الجملة الأخيرة أي :
يأتينا من عند أهلنا من نحن أدرى بخبرهم منه.
ثم سكتت و رجعت لقوقعتي.

* ولا بد هنا من استدراك مهم ومشروع  فلاحقا ظهر عندنا في الحقيقة أشخاص يمكن بالفعل مقارنتهم بذهنية محمد عطا و تطرفه وهو ما لم أكن اعتقده في حينه أبدا . وهذا مصداق للمثل : يرى الشيخ المتكئ ما لا يراه الشاب الواقف. 
تكلم تاليا  مدير الإشارة ثم مدير المدفعية وانتهى الإجتماع في حدود الثانية والربع .
 والحقيقة أن الغالبية العظمى كانت قد شاركت في النقاش الجاد الذي دام زهاء ساعتين . 
مر الرئيس  من جديد على الجميع و صافحهم  وخرج . 
عدنا بالباص إلى الأركان و ذهب الجميع إلى منازلهم  .
كانت لدي انطباعات مختلطة عن الإجتماع فأنا من جهة أشعر بالرضا التام أني أديت واجب النصح بكل أمانة و تجرد و إني لأرجو أن يكون التلقي إيجابيا أما إن كان غير ذلك لا سيما أن الرئيس أراد إنهاء تدخلي بلطف واختصر الإجتماع  بعد ذلك فقد كنت اعلل نفسي بأني سأحصل على الأقل على ما يقال عن " أجر كلمة الحق عند السلطان... ".
لم أكن أخشى طبعا من ظلم محض يقع علي فحاشا من ذلك وإنما احتمال التحول السهل من خانة قرة الأبصار و "القليان" إلى  التعرض للنهش و وسوسة المرجفين و التي قد تصير لديهم مع الوقت شبه وسواس قهري "معدي".
 وأكثر من ذلك خطر الوصم بتصنيف سياسي غير حقيقي قد  ينتهي بك في أسوء الظروف إلى التحويل خارج إنواكشوط وهو ما كان  حينها كافيا لإفساد بعض  الأمور الأخرى . لكني مع ذلك وطنت نفسي لأي طارئ على اعتبار أن  ما سيفعل الجليل فهو الجميل و النية الحسنة لا ينجم عنها إلا الخير . 
للأسف لقد كانت بعض انطباعاتنا في ذلك الوقت جد سلبية عن الرئيس معاوية و في كثير من القضايا الوطنية الجوهرية -  مما وجب الإمساك عنه حاضرا - لكني مع ذلك كان لدي احترام لشخصه و لبعض جوانب ميراثه المضيئة لا سيما في مسائل الهوية وتلك  النزعة العصرية عنده  le penchant moderniste. 
و لا اخفي أبدا  أنه قد فاجأني منه شخصيا مواقف ثلاثة خلال اوقات مختلفة :
1- الصرامة في خطابه لعيد الفطر بعد أحداث 1989م والذي صدم السنغاليين وقد كنت اتابع إذاعتهم من ثكنة "إجريده" التي أخدم فيها . 
2- الشجاعة في خطابه أيضا  بعيد الفطر في  1991م عندما تجاوز التدرج و ذهب مباشرة إلى آخر الشوط في نية التحول الديمقراطي . لقد كان ذلك  بالنسبة لي حينها و على ضوء ما كان سائدا من ظروف  دقيقة  داخليا وخارجيا كمن يقفز في الفراغ . 
و الحقيقة أني لم أكن أفكر حينها بعامل التزوير أو إمكانية التلاعب بالنتائج، 
- و أخيرا الترفع والتماسك في خطابه بمناسبة فشل الثامن من يونيو 2003 . فرغم ألم الجرح والضغط فقد تحدث بإحترام و مسافة كافية مما جرى ومن قام به . فحديثه كان عن ضباط استولوا على دبابات َووو....ولم ينزلق لعبارات غاضبة او مبتذلة كالوصف بالمجرمين وما إلى ذلك . 
 و من جهته لا أدري كيف ينظر الرئيس معاوية ناحيتي اللهم ما أحسبه إيجابيا - إلى حد ما - مما نقل لي عنه سماعا أو مشافهة منه لأصحابه  كل من :
- مسؤول فندقي سابق بالرئاسة لقيته وقد تقاعد منذ 2005 . 
- و أيضا الوجيه الكنتي العميد محمدفال ولد إحمد (إزرام) الذي التقاه الرئيس خلال آخر  زيارة  له لمدينة أكجوجت.
وعودة لمفاعيل و ذيول الإجتماع في الرئاسة، فبعد أسبوع صادفت المرحوم العقيد رئيس المكتب الثاني خارجا من عند زميله قائد المكتب الثالث فسلمت عليه فأخذني معه إلى مكتبه . كانت معرفتي به سطحية فلم أخدم قط معه .  و عندما أردت الإنصراف من عنده قال لي انهم في المكتب الثاني يرحبون بأي مساهمات فكرية ( Réflexions) و أنهم سيرفعون إلى المستوى الأعلى ما يجدونه جديرا بذلك . كانت هذه إشارة إيجابية لا سيما أني لم ألاحظ اي تصعيد  في الساحة ضد الإسلاميين كما كنت أخمن . 
قبل نهاية السنة جرت مياه كثيرة فقد تقاعد الجنرال قائد الأركان الوطنية وصار المرحوم العقيد الذي كان مساعدا له هو  القائد الجديد  للأركان . 
كما ذهب رئيسي في المكتب الأول في دورة تدريبية بألمانيا وصار للمكتب رئيس آخر . 
و في أول سفر لقائد الأركان الجديد  لترؤس تبادل مهام  القيادة على مستوى مدرسة ضباط الصف ENSOA بمدينة النعمه صدرت  على العادة  مذكرة عمل تحدد من سيرافق قائد الأركان في سفره . 
طبيعيا كان ضمن اللائحة كل قادة المكاتب والمدراء و جميعهم تقريبا من رتبة عقيد لكن المكتب الأول كان ممثلا بمساعد قائد المكتب وهو رائد فقط . كان هذا غير عادي وشعرت بالحرج لأنه قد يعقد علاقتي بقائد المكتب الجديد وإن كان معلوما انه ليس لي في الأمر دخل . سافرنا بالطائرة وفي إجتماعه بضباط المدرسة و كذلك بضباط المنطقة العسكرية الخامسة  المتواجدين في "النعمة"  فقد أكد قائد الأركان في خطابه على التكوين و  الأمور المهنية لكنه في النهاية ندب الضباط لتوسيع مداركهم في الثقافة العامة و حضهم على القراءة عما يجري في العالم و حتى عن باكستان و أفغانستان . عندها قطع عندي الشك باليقين و حسم الأمر لدي بخصوص إيجابية الإنطباع لدى الدوائر العليا بشأن ما قلت في اجتماع الرئاسة . 
 هل كانت الرسالة في النعمة مقصودة من طرفه ؟ الله اعلم. 
لكن في موضوع آخر لقد كان من  الأرجح إن حضوري للاجتماع في  الرئاسة ربما كان من دواعي الصورة الذهنية الإيجابية التي استصحبها المرحوم العقيد قائد الأركان حينها وإن كان  قد  سبق  لي معه غير ذلك مما ربما قد علق به  هو الآخر لا سيما ذلك  التدخل في الملتقى حول العلاقات العامة والذي  نظمه الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي( AFSOUTH) لصالح ضباط من مختلف فروع القوات المسلحة وأطر من وزارات الخارجية والداخلية والإعلام في 
الفترة من 10 وحتى 12 يونيو 2001م فضلا عن قضية أخرى ذات طبيعة مهنية و قانونية داخلية .
السلام عليكم.

محمد ولد شيخنا
https://youtu.be/JB9-Kqi2h5s?si=L3t2GE7D70sjGVY_

ثلاثاء, 12/09/2023 - 18:10