تضامنا مع المؤرخين

تابعت ندوة الدوحة حول التاريخ الموريتاني، أو بالأحرى جزءا كبيرا منها، وفهمت أنها تندرج ضمن جهود التثقيف غير المؤطر الموجه لأفراد الجالية هناك، وتشكل كذلك فرصة للتلاقي والتسامر بين أفراد الجالية وبعض الأسماء الثقافية والفكرية المقيمة في الدوحة، أكثر من كونها ندوة أكاديمية بالمعنى الدقيق للكلمة. وهذا، في ذاته، أمر لا غبار عليه. فجاليتنا في الدوحة تعد من أكثر الجاليات الموريتانية إسهاما في إنتاج المعرفة حول البلد، ومن بين أكثرها حضورا في المشهدين الثقافي والإعلامي العربي.

لكن هذه الندوة أثارت امتعاض بعض المؤرخين، وأنا أتفهم ذلك وأتضامن معهم، بل وأعتقد أنهم على حق. الحديث في موضوعات خارج مجال التخصص أمر شائع نقع فيه جميعا، وارتكاب الأخطاء أمر طبيعي لا يسلم منه أحد. إلا أن الإشكال برأيي في مداخلة الدكتور محمد المختار – وهو شخص مثقف وناجح في مجاله – لا يتعلق بجرأته على الخوض في موضوع لم يتخصص فيه و لم يمارس البحث و الكتابة فيه، بل بطريقة تناوله للموضوع، التي اتسمت بإطلاق أحكام كبيرة يتردد حتى المؤرخون المتخصصون في الجزم بها.

ما معنى أن يصرح المرء في البداية بأنه غير مؤهل للخوض في موضوع معين، ثم يكون معظم حديثه تأطيرا عاما، وتسفيها لمساهمات مؤرخين، وتقديما لتحقيبات ونظريات بديلة وكأنها حقائق جديدة؟  ما هي الحدود التي وضعها لنفسه حين اعترف بأجنبيته على الموضوع، و ما الذي ترك لأهل الاختصاص؟

تضامني مع المؤرخين ليس من باب تسييج هذه التخصصات الأكاديمية ومنع الاقتراب منها لغير المتخصصين. فالمعرفة الأكاديمية، في النهاية، مجرد نوع من أنواع المعرفة، لا تحتكر الحقيقة ولا تدعي الكمال، ولا هي بالضرورة أفضل من غيرها. لكن، حينما يقرر شخص ما أن يخوض في نقاشات ذات طابع أكاديمي، فعليه أن يتبنى منطقها، ويستوعب تراكمها المعرفي، ويتحدث لغتها.

عليه أن يشعرنا أنه مطلع على الكتابات السابقة؛ لا يكفي، مثلا، أن يصف مساهمات من قبله بأنها "استشراقية" بهذه البساطة، متجاهلا الجهد المعرفي المبذول من باحثين يدركون التأثير المحتمل للجذور و الأطر الاستشراقية على دراساتهم، ويتعاملون معها بوعي نقدي، ويعملون على تفكيكها وتطوير مناهجهم ومصادرهم باستمرار.

لنسع لبناء و ترسيخ تقاليد جادة للنقاش العام. لنحترم التخصص، دون أن نتعامل معه كسياج، ونشجع على الحوار، دون أن نسمح بالتسطيح و التمييع.

اثنين, 05/05/2025 - 22:01