من النصر على الفاشية الى التقارب مع العالم الإسلامي، روسيا كما يراها دوغين

حين سقط الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات، رأى كثيرون في ذلك إدبارا  لروسيا ومشروع دولتها  العظمى، لكن الحقيقة التي جلاها الزمن هي أن هذا السقوط لم يكن  سوى تحرر من الرداء الإيديولوجي الخانق المتمثل في الشيوعية التي لم تتمكن - كما يقال - من طمس الجذر الروسي الراسخ .

وكما أكد منظر الأوراسية الأبرز الكسندر دوغين فإن الشيوعية  لم تكن  بالنسبة لروسيا  سوى أداة للتعبئة وضبط  أمور البلاد في لحظة وجودية حرجة، وبالتالي لم يكن بمقدورها  أن تحل محل الروح الروسية المتجذرة، المترعة بالإعتزاز بالتقاليد، والارتباط الغريزي بالأرض والأسرة والمقدّس.

 

ليس عبثا اذن ، في نظره،  أن تستمر روسيا في تخليد انتصارها على النازية حتى بعد زوال الاتحاد السوفياتي، فاحتفالات التاسع من مايو  ليست فقط تخليدا لذكرى الانتصار  العسكري الحاسم والمكلف على النازية، بل كذلك ازدهاء وزهوا بالروح الروسية  العصية على الإخضاع.. تلك الروح التي هزمت نابليون قبل أن يوجد الاتحاد السوفياتي وهزمت التتار قبل ذلك ..  وكما قال  دوغين،  لم يكن الجيش الأحمر وحده من دحر  هتلر، بل كانت قرى الروس والصبر التاريخي وتقاليد التضحية التي تتجاوز الإيديولوجيا، حاضرة في كل خندق.. لذلك فإن الاحتفال هو في حقيقته احتفال باستمرار روسيا كروح، وكتاريخ، وكقيم حاملة لمعانى غير قابلة للمحو.

 

من هذا المنبع  الروحي ، حفر  دوغين جداول نظريته الجيوبوليتيكية في كل اتجاه مركزا بشكل خاص على  أهمية العلاقة  بين روسيا والعالم الإسلامي كحضارتين طعنتهما الحداثة الغربية، وأرهقتهما النيوليبرالية .

فكما يرفض الإسلام اختزال الإنسان في السوق والحاجات المادية،  وكما يتمسك المسلمون بالأسرة والإيمان والتقاليد، كذلك تفعل روسيا الأرثوذكسية، وقد وجد دوغين هنا مدركه لما أسماه الحضارات المتجذرة، حيث يصبح الاسلام الأصولي في نظره شريكًا لروسيا في مواجهة العولمة المادية، إذ يؤكد  أن هناك جملة من المشتركات قادرة على أن تمثل أرضية صلبة لتحالف حضاري ضد الليبرالية الغربية من أهمها أن كلًا من الإسلام و الأرثوذكسية الروسية يتمسكان بفكرة الإيمان بالله، وبالروح كمصدر وملهم، الأمر الذي يتناقض جذريًا مع العلمانية الغربية الحديثة التي تفصل الدين كليا عن الحياة العامة وتؤسس رؤيتها للحياة على النزعة المادية فقط.

 

ومن هذه المشتركات أيضا رفض الليبرالية والفردانية الغربية، إذ يعتبر دوغين أن الحضارة الغربية تتمحور حول "الفرد" كمصدر وحيد للمعنى والقيمة، بينما في الإسلام كما في روسيا فإن  الجماعة والأسرة والتقاليد مقدمة على الذات الفردية المنفلتة من عقالها. ومن المشتركات أيضا الدفاع عن القيم الأسرية، ورفض الانحرافات الأخلاقية التي أصبحت شائعة في الغرب، مثل تقنين الشذوذ الجنسي وترويج الإلحاد كمرجعية سياسية وأخلاقية.

 

كذلك  من هذه المشتركات مفهوم الدولة القوية ذات السيادة فدوغين يرى أن الإسلام — خصوصًا في نماذجه السياسية التقليدية — لا يقبل بالهيمنة الغربية، ويتمسك بفكرة "دار الإسلام" ذات السيادة، وهو ما ينسجم مع المشروع الأوراسي الذي يُعلي من شأن الدولة الراعية للهوية الحضارية والسياسية لشعبها. 

ولقد أفاض وأجاد هذا المفكر العظيم الذي تدرس نظرياته  الآن في الاكاديميات العسكرية الروسية، وتعلي الحكومة الروسية بقيادة بوتين من شأنه وقدره .

 

ومع ذلك، وبالرغم من المهاد النظري الواضح الذي جلاه ، لا يزال الحضور الروسي في المجال الإسلامي ضعيفًا، خافتًا،  فلا توجد مؤسسات ثقافية روسية فاعلة في العالم العربي والإفريقي، ولا جسور عميقة مع نخب الفكر  والسياسة ولا حتى برامج لتعليم اللغة الروسية. وهذا تقصير  يتوجب تلافيه.

 

غير أن المعضلة الكبرى ربما تكمن بالاساس في  سوء فهم الشعوب الاسلامية عربيا وافريقيا لروسيا المعاصرة، إذ لا تزال نظرة هذه الشعوب محكومة بإرث الاتحاد السوفييتي، خاصة صورته كقوة شيوعية إلحادية، وهذا تصور يتجاهل التحولات الجذرية التي شهدتها روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، سواء على مستوى علاقتها بالدين، أو على مستوى سياستها الخارجية التي باتت تتبنى خطابًا سياديًا مناهضًا للهيمنة الغربية، يلتقي مع طموحات العديد من الشعوب الإسلامية الساعية إلى عالم متعدد الأقطاب.

ومن المؤكد  أن التمسك بصورة نمطية قديمة يعمي البصيرة عن الفرص الجديدة للتعاون المشترك، ويفتح المجال لتوظيف هذا الجهل في خدمة مشاريع الهيمنة الغربية التي لا مصلحة للعالم الإسلامي في استمرار دعمها.

سبت, 10/05/2025 - 11:58