من تاريخ الكادحين: اطلقوا سراح ولد عابدين

الحلقة 12

ذات ليلة من ليالي سنه 1973 بعد صدور العملة الوطنية الأوقية ،كنت مع مجموعة من الأصدقاء خارج مدينة نواكشوط وفي طريق العودة اعترضننا دورية من الحرس الوطني، يقودها المغفور له بإذن الله اسويدات ول وداد طيب الله ثراه، أمرونا بالصعود الى مركباتهم وأنزلونا عند ثكنتهم القريبة، لما تجاوزنا البوابة الرئيسية صاح احدهم خذوهم الى لجنة  "الاستقبال" وما أدراك ما لجنة الاستقبال: لكمات وضربات بالعصي لا تستثنى عضوا من الجسم مهما كان حساسا، تضربُ  أكثر الضربات إيلاما وأشدها إيذاء. وقبل أن ندخُل حفلة  "الاستقبال" الرهيب أَنقَذنَا صوت فقيد الوطن المرحوم أسويدات ول وداد أمرهم أن كُفُّوا عن الشباب، سلِموهم للبوليس، انتهى دورنا بالقبض عليهم وتسليمهم لمن يهمهم الأمر. عندها تنفسنا جميعا الصُّعداء وذهبنا الى مفوضية الشرطة  قبالةَ مبنى الإذاعة الوطنية ، يفصِلُ بينهما شارع جمال عبد الناصر.  أودعونا أقفاصا ضيقة، أبوابها حديد لا نوافذ لها ولا فراش فيها، أرضيتها ملطخة بما لا يسرُّ الناظرين، يتزاحم فيها الموقوفون من كل الأصناف، بدءً بغلاة المجرمين والمدمنين، وتغشى داخلها سيئَ الحظ روائحُ كريهةٌ تُزكمُ الأنفاس، و بتنًا ننتظر العذاب وانتظاره أَشدُ على النَّفسِ من وقوعه!

في الصباح الباكر سمعت صوت أمي الحنون تنادي عند المخفر وترجو السماح لها بزيارتي ، منعوها مما تريد قالوا بعد ان أخرجوها عنوةً : هذه العجوز تدَّعي دائما أنها أم  لجميع الكادحين، ما اعتقلنا احدهم ،سواء كان من مواليد الحوض  الشرقي أم أهل الساحل او أهل تيرس او ٱدرار إلا و جاءتنا  العجوز تحمل الطعام والملابس النظيفة لتسلمها "لأولادها" وما أكثرهم عددا، وأضاف كبيرهم مؤكدا انها تُجيدُ حفظ القران الكريم  فعندما تصل المفوضية  تقول بثبات للمفوض:  السلام عليكم" قَالُوا (تَاللهِ تَفْتَأُ تذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) فيجيبها المفوض السابق أَوّاهْ ول لُلَيْد طيب الله ثراه وتجاوز عنه ، "وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ". وفي الحديث المتبادل تلميحٌ  إلى قصةِ يوسف عليه السلام وسجنه المعروف. فيجيبها المفوض المرحوم بما ورد في سورة القصص وحيًا الى ام موسى "وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي ..."  إلى آخر الآية الكريمة.  وأردف كبيرهم  أن والدتي لها سابقة أخرى في مجال الاحتجاج إبان اعتقال السلطات مجموعة من النساء نظمن وقفة احتجاجية لإطلاق سراح بعض الرفاق المعتقلين. كانت ضمن المقبوض عليهن مريم بنت لحويج أطال الله عمرها والمغفور لها بإذن الله السالكة منت اسنيد  وأختي الشقيقة فاطمة عابدين. أقبلت  الوالدة المرحومة تحمل بين يديها رضيعا منعوها ظلما من إرضاعه، وتبارى الجلادون شُلت أيديهم في مهمتهم  النذلة! ظلت والدتي غفر الله لها خلال الوقفة تترجى القوم قساة القلوب وتكرر "لاَ تُضَارَ وَالِدَةُ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهْ " توبوا الى الله، يغفر لكم، ان كنتم مسلمين.

مكثتُ طول اليوم في زنزانتي وبعد الظهر سمعت جَلَبَةً عند مكتب المفوض غير بعيد من محبسي، نما الى مسمعي صوت المرحوم الإمام بداه ول البصيري طيب الله ثراه وجعل الجنة مأواه، و هو يخاطب المفوض بصوته الجهوري المعهود: أطلقوا سراح ول عابدين ان كان قتل نفسا، أما إذا كان بريئًا فأنتم مرغمون على إخلاء سبيله لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، وسيكون خصمكم والله نصيره يوم لا ينفع مال ولا بنون، تقفون جميعا بين يدي  العزيز الجبّار، لا تنفع معه وساطة ولا سلطة رئيس ولا وزير ، تختصمون أمام الله وعنده تجتمع الخصوم! ولما أنهى الإمام بداه غفر الله له مرافعته القوية أجابه المفوض : سَنُخْلي سبيله ويرجع الى ذويه شمس اليوم، وهو ما حصل بعد ان غادر الإمام بداه.

في اليوم الموالي قصدت زيارة الإمام بداه طيب الله ثراه في مسجده بلكصر لأعبر له عن شكري و امتناني لإخراجي من غيبات السجن وبراثين الجلادين. دخلت قاعة التدريس ، وجدته جالسا على "إلويش " منهمكا في الرد على طلابه ومريديه: يفسر آية من القران الكريم لهذا ويشرح بيتا من الشعر لآخر ويدقق سند حديث جوابا لسائل، لا يتوقف طلابه داخلون خارجون ينهلون من بحر علمٍ لا ساحل له. بعد إتمام حصة التدريس شَرَعَ في السؤال عن الأهل يعرفهم بأسمائهم فردا فردا كبيرهم وصغيرهم واستطرد قائلا ما أخبار أصحابك الكادحين وماذا يريدون؟ بدأت الحديث مُطَأْطِأً الرأس، انظر الأرض لا ارفع ناظري، اجلالا لجليسي الوقور: نحن نريد الحياة بلا ظالمين. وخصومتنا مع النظام سياسية بامتياز نختلف معه حول تدبير شؤون البلد وعلاقته بالمستعمر ، نود ان يتحرر الناس من نير الجهل والغبن وان يكونوا سواسية كأسنان المشط لا فضل لأحد منهم على أحد وان لا نستعبد البشر بعدما ولدتهم أمهاتهم أحرارا وإنما يُشاع عنا على لسان أهل الحكم باطل ليَسْهُلَ التغلب علينا ويمكنَ عزلنا عن الناس ثم القضاء علينا ليستمر العسف والظلم  وهو لعمري أمر مرتعه وخيم. سكت المرحوم بداه برهة وفكر قليلا وختم حديثه : يا بُنَيَ أنا من الكادحين لكن لا استطيع إعلان ذلك على الملأ حفاظا على مصالح طلاب المحظرة ومخافة ما قد ينجمُ عنه من هوان لأهل العلم في هذه الأرض كرد السلطات المحتمل على مثل هذا الموقف.

وظل الإمام بداه ول البوصيري طول حياته على مسافة بينة من السلطان لا يحابيه مستمسكا بالعروة الوثقى، يصدح بالحق بعزم وثبات.

كلما تذكرت مواقف الإمام بداه أقول في نفسي بعد الترحم عليه : لو كان لي من الأمر شيئا لرفعت اسمه فوق اكبر المساجد العامرة بالْعُبَادِ "القَائِمِينَ وَالٰرُكَعِ الْسُجُودِ"، ولسميتُ باسمه الشوارع والساحات ولرفعت من شأنه لأنه يستحق.

فى إحدى الحلقات المقبلة  سأروي لكم بحول الله ومشيئته كيف استطاع أفراد المهمات الخاصة ضمن عملية معقدة جريئة تهريب احد قادة الكادحين وضمان تنقله بأمان بين مخابئ سرية لمدة طويلة دون ان يُعْثَرَ له على أي اثر وقد أصبح المطلوب الأول لدى أمن النظام، يبحثون عنه في كل مكان. 

                               يتبع بحول الله

خميس, 11/02/2021 - 21:44