
عندما بدأ توماس سانكارا مشروعه السيادي الثوري في بوركينافاسو أوائل الثمانينات متحديا مصالح الشركات الفرنسية ونظام التبعية الاقتصادية تشكلت في الحال جبهة غربية قادت حملة اعلامية ودبلوماسية شرسة ضده، حيث تم تصويره بأنه حاكم استبدادي وأنه طوباوي مختل وشاب حالم متهور ..ثم سقط قتيلا في انقلاب نفذته أيد مأجورة باسم استعادة الشرعية في مثل هذا اليوم 17 مايو 1987.
اطلاق الرصاص على الزعماء الثوريين الأفارقة ظاهرة تكرر حدوثها في القرن العشرين من فكتور بياكو بودا ، باتريس لومامبا، آميكارل كابرال، وتوماس سانكار وغيرهم، دون أن نتحدث عن الاعدامات المعنوية من خلال الانقلابات الموجهة والملاحقات القضائية المسيرة ، ومنذو فترة وجيزة تابعنا أيضا وقائع محاولة اغتيال فاشلة استهدفت الرئيس البوركينابي الجديد النقيب ابراهيم اتراوري. ولا يزال الاعلام إلى اليوم ينشر دعوات صريحة في الغرب للقضاء عليه وتخليص الساحل منه..
غير أن المفجع وربما الاسوء في كل هذا أنه قبل نفاذ الامر في أي زعيم اذا قدر الله نفاذه فيه، هو الاغتيال المعنوي ليس من فوهات البنادق بل من أفواه االمبعوثين الدوليين وتقارير المنظمات الحقوقية وخبراء الاقتصاد ومنابر الاعلام الموجه كلها تتعاون لسحقه معنويا وخنق مشروعه السيادي من الداخل بزرع الشكوك حوله وتصويره كصاحب نزعة سلطوية وبوسمه بالدكتاتورية ، ففي عالم مصاغ بمنطق أحادي مقلوب المفاهيم يصبح كل قائد يتحدث عن سيادة بلده وحماية ثرواته خطرا على شعبه وجيرانه، وبالتالي فاقد للشرعية والمصداقية.
كل التصفيات الجسدية والمعنوية نفذت تحت عنوان العودة الى الشرعية..
وكما يغتال القادة جسديا بالسلاح أو معنويا بتهمة الديكتاتورية، يتم أيضا اغتيال السياسات المستقلة والخطط السيادية بالديون، وتُخنق الدول الرافضة للخضوع بعقوبات مالية، وتُحتجز تنميتها في قاعات الانتظار الطويل.
فالشرعية لا تكتمل من خلال الاعتراف السياسي، بل لا بد أيضا من الامتثال الاقتصادي لمؤسسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي تتولى صياغة ملامح الدولة نيابة عن شعبها، ومن يرفض وصفاتهم الجاهزة، يُصنَّف فورًا بأنه غير متعاون ومعاد لمصلحة شعبه..
وفي أوائل الثمانينات من القرن المنصرم، رفض الرئيس الموريتاني الاسبق محمد خونا ولد هيداله الانصياع لشروط البنك الدولي، حيث طلبوا منه رفع الدعم عن المواد الأساسية الذي كانت تقوم به شركة سونمكس في مجال بعض السلع الاساسية وكذلك شركة فارماريم في مجال الأدوية، و أن يحرر الاقتصاد ويرفع الحواجز، ورغم أنه لم يكن زعيمًا ثوريًا بالمعنى الحقيقي المتعارف عليه، إلا أن محاولته المحافظة على القرار السيادي كلفته الكثير، بدأ باغتياله المعنوي من خلال إشاعة أن ولاءه للشعب الصحراوي أقوى من ولائه لموريتانيا ، ثم من خلال المحاولات المتكررة للقضاء عليه، إلى أن تمت إزاحته في 12 من دجمبر سنة 1984 .
وأخير يتم اغتيال المشاريع الثورية من خلال الابتزاز الشرائحي والفئوي، فقضايا الهويات القلقة والفئات المهمشة لا ترغب القوى النيوكولونيالية في حسمها نهائيًا وهذا أمر مقصود لأنها تُدار في الغالب كأوراق ضغط، تُستدعى عند الحاجة حين يظهر نظام ثوري او حتى فقط ذو ميول سيادية ،ثم تطوى هذه الملفات بسرعة وتححب عن الضوء وتكتم أصوات أصحابها حين يأتي نظام ترضى عنه هذه القوى، وهكذا إلى أن يبرز زعيم وطني جديد أو يظهر خطاب سياسي يمسّ خطوط المصالح الغربية – كالكلام عن السيادة أو الاستقلال الحقيقي - عندئذ تُعاد هذه الملفات إلى الواجهة ، ويتم توظيفها لتفتيت الجبهة الداخلية، وإرباك الخطط السيادية التحررية، وهذا هو ما حصل بالضبط مع الفلان الذين فتح ملف معاناتهم كما يذكر كل أحد في أيام الرئيس الغيني شيخو توري صاحب المشروع السيادي في غينيا وصاحب قرار (لا ) الشهير ، ثم طوي ملفهم بعد ذلك في أيام لانسانا كونتي وحجبت معاناتهم طويلا عن الاعلام الى أن ظهر المشروع التحرري الجديد في الساحل فبعثت القصية من مرقدها من جديد ، واتخذ العنف الارهابي وقودا لها .. والامر نفسه ينطبق على الطوارق في مالي ..وحتى على الحراطين في موريتانيا بدرجة ما .
إنها هويات تُعلّق كخيوط فوق الخارطة، لا تُترك لتتطور بحرية، بل تُحرَّك وتُسكَّن حسب مصالح الخارج، أما الأخطر في توظيفها فهو حصر مطالب العدالة والإنصاف لهذه الفئات في أدوار ظرفية، بدل أن تُؤطَّر في مشروع وطني جامع يضمن الحقوق خارج منطق التوظيف التكتيكي..
ولا شك أن هذه مهمة أصحابها ، وهي منوطة بلا ريب بوعيهم وفهمهم لحقيقة ما يدور حولهم.