
ما أقسى ما تفعله السياسة حين تفقد بوصلتها الأخلاقية وتتحول من أداة لإدارة شؤون الناس إلى أداة لتفريقهم. تأملت كثيرًا فيما فعله التنافس على السلطة، لا في حاضرنا فحسب، بل في تاريخنا الذي امتلأ بالمنازعات والمواجهات التي لم تنتهِ إلا إلى الانقسام والشتات، حتى تفرّق الأخ عن أخيه، وتباعد الأب عن ابنه، وتحوّل الخلاف إلى خصومة، والخصومة إلى كراهية.
لقد كان من الطبيعي أن نختلف، فالاختلاف سنة الحياة، والتنافس مشروع بل ومطلوب حين يكون من أجل البناء والإصلاح. لكن ما أفقد الاختلاف طبيعته الصحية هو ما تسلل إليه من غدر وكراهية وحب للهيمنة. التنافس لا يخيفنا، ولكن الغدر هو ما يُرعب، والحقد هو ما يُفرّق، والمكر هو ما يهدم.
لسنا الأضعف في مواجهة من يكيد لنا من أعدائنا، ولا في وجه من يطمع في أرضنا أو ثرواتنا. إن ضعفنا الحقيقي ليس في سلاحنا ولا في اقتصادنا، بل في وعينا، في إدراكنا لما ينفعنا ويجمعنا. المؤلم أن لا شيء مما نتقاتل عليه يستحق أن نفترق لأجله، لكن بعضنا قد ضاق صدره ببعض، حتى أصبحنا طوائف متنافرة وشيعًا متخاصمة، كل طائفة فرحة بما لديها.
مأساتنا ليست جديدة، فنحن أسرى لخلافات تاريخية ما زلنا نرثها ونعيد إنتاجها. ولكننا نعيش اليوم في زمنٍ لم يعد يحتمل هذا التشرذم، بينما غيرنا من الأمم يختلفون، لكنهم يعودون إلى “كلمة سواء”، يحتكمون إلى ضمير جمعي ينقذهم من السقوط. أما نحن، فعلى كثرة ما نملكه من أسباب الوحدة، لا نزال نختلف ونتخاصم ونتآمر.
إن الإصلاح لا يبدأ من قمة الهرم السياسي فحسب، بل من سلوك الإنسان الفرد. لا يستقيم دين أحد إلا إذا استقام سلوكه، والإسلام، الذي ندّعي الانتساب إليه، لم يكن في يومٍ مجرد شعائر، بل دعوة دائمة إلى الإحسان، وإقامة العدل، وردّ الحقوق، ومقاومة الفساد، والوقوف مع المظلوم.
ندفع اليوم ثمن ما يفعله السفهاء والجهّال، وثمن ما يصنعه الطغاة من ظلم واستبداد. الأبرياء وحدهم يتحمّلون نتائج عداوات لا ناقة لهم فيها ولا جمل. والمؤسف أن كل ذلك يمكن تجاوزه لو صدقت النوايا، وعاد الضمير الحي، وتم تقديم المصلحة العامة على كل نزعة فردية أو فئوية أو حزبية.
إن السلطة والمال هما أعظم ابتلاءين يواجهان أي مجتمع. ومن لا يضع لهما حدودًا عادلة تحميه من الطغيان والفساد، فإنه يهوي إلى مهاوي الظلم والاحتكار والاستئثار. يجب أن تكون السلطة متداولة، لا يحتكرها أحد، وأن تحترم إرادة الناس، لا تُشترى ولا تُغتصب. ويجب أن تكون الثروة مشروعة ومنتجة، لا مسروقة ولا مغتصبة.
ليس عدلًا أن يُثرى فريق بلا جهد، وبالنفوذ والرشوة، بينما يعاني آخرون من الجوع والبطالة. وليس من العقل أن نتصارع على السلطة قبل أن نبني وطناً يستحق أن يُدار.
نعم، نحتاج إلى موعظة، لا بالمعنى الخطابي العاطفي، بل بالكلمة العاقلة الصادقة التي تذكّرنا أن دين الله ليس أداة بيد الأقوياء، ولا ينبغي أن يركع علماؤه أمام رموز الطغيان طمعًا أو خوفًا.
نحتاج إلى كلمة تهز القلوب والعقول، تردنا إلى قيم العدل والإحسان، وتدفعنا إلى طريق العمل الصالح، الذي فيه نجاة الفرد والمجتمع. فـ “من عمل صالحًا فلنفسه، ومن أساء فعليها”، وإن لم نكف عن التنازع فسنفشل، وتذهب ريحنا، ونصبح – كما نحن اليوم – في موطن الضعف والذل والهوان.
محمد يحي ولد الجراح
برلين ، ألمانيا