عطش كيفة يسرق براءة الأطفال

 "وجاء من أقصى المدينة" .. جاء يركض -وهو الهزيل الظمآن- في سباق مع الوقت .. جاء يحمل جالونين أصفرين بلون الصيف .. يصرخ في صمت تتجاذبه الأقدار .. يركض وهو لا يكاد يقدر .. يتعثر فلا يستسلم .. ينادي بصوت مبحوح قادم من تحت أعرشة النسيان والإهمال. 

ينادي: أماه أماه ..! أريد أن أشرب أريد أن أشرب..! 

خطواته المتعثرة تعثّر التنمية في المدينة شدّت من عزيمته على المواصلة، وكلماته الخافتة كصوت مذياع عتيق ضعيف البطاريات لم تمنعنا من فهمنا حاجته إلى الماء والغذاء والدواء والمأوى.

 

 اقترب من صهريج الأمل لعله يسقي ظمأ اللحظة .. بعد أن دجى الخطب، وتباطأت نبضات قلبه مهددة ما بقي في النفس من حشاشة.

 

 نظرت إليه فأنبأتني تضاريس جسده نصف العاري عن مدى القحط والشح الذي يعانيهما الحي الواقع في قلب الهامش؛ ساعتها تذكرت ِقربةً كانت معلقة في جذع شجرة أمام بيتنا، وقطرات باعثة للحياة تنزل من بطنها في إناء وضعه أبي تحتها ذات صيف حار لسقاية عصافير يتهددها العطش. 

 

  تذكرت آبارا ما نضبت مآقيها في وجه مورديها بكرة وعشيا، رغم قلة ما فيها .. لقد كانت أسخى من حنفيات باتت كأعجاز نخل خاوية في بضع سنين، وتذكرت كيف انخدعنا حتى دفنّا عصب الحياة داخل تلك الآبار يوم أخبرونا في يوم مشهود أن الماء سينساب رقراقا في طرقاتنا، وأن ينابيع الحياة ستروي عطاش البشر والأنعام والشجر.

 

  لقد جعلونا -بوعودهم الانتخابية- كمن يلهث خلف غيمة بدينة صعدت لتوها من المحيط في رحلة الشتاء والصيف، لتمطر بعيدا .. بعيدا عن مضاربنا، وليس لنا من خراجها إلا السراب والريح السموم.

 

  لقد خدعونا وجعلونا كمن "شاف النوْ و افلت قربو "

 

  فهذا شهر مايو وقد أماط اللثام عن وجه عبوس جاف، وكشّر عن أنياب متعطشة للأذى، متوعدا سكان كيفة بمزيد من العطش، في صيف غائظ لم تعهد المدينة مثله.

 

  يدفع هذا الطفل الغض الهش ضريبة تصديق ذويه كلام الساسة ممن يملؤون الجِرار والقِرَبَ بكل ألوان الأمل.

 

 وقد علمتنا التجارب أنه في موسم الانتخابات يساق أغلب الناس مصفدا بأمعائه نحو سياط الجيوب، ومقصلة الأخلاق .. وتنتهج السلطة معه سياسة الماء المؤقت مقابل الولاء المطلق، وهي في زاية أخرى .. وفي باب من فلسفة فن البقاء تعزف أوتار الحمية القبلية والعقَد الشرائحية والنظرة العنصرية فتسلب عقولا غيّبها التخلف ببريق زائف. 

 وبذلك يبقى المواطن المسكين يتعس ويشقى راضيا العيش على الأمل والسراب.

 

  ولكن متى سنبقى نصفق ونطمئن لمن خدعنا ؟

أما آن لنا أن نعلم أنه كذب السياسيون ولو صدقوا ؟ 

 

  ومتى سأغتسل -أنا- من هذا الهذيان، وأسمع زقزقة العصافير حول غدير كان على مقربة من بيتنا ؟ 

 ومتى يفيض" بلمطار" وتؤتي السنابل أكلها لتعود المدينة شامخة شموخ "سكطار" .. هادئة هدوء "السيف" .. دافئة دفء "القديمة" ..!؟

 

               الحسن ولد محمد الشيخ ولد خيمت النص

ثلاثاء, 27/05/2025 - 15:22