التلفزيون الوطني / حبيب ولد محفوظ

متفائل أنا دائماً، إنها حالة كثيراً ما تنتابني، نوبات ونوبات. أبداً أنا مهووس بالتفاؤل ففي كل مرة أجلس أمام التلفزيون وأقول لنفسي هذا الاسبوع ستكون الأمور أفضل ستبذل التلفزة الوطنية جهوداً جبارة وتكون أحسن وتتوقف عن تحطيم الأرقام القياسية في الرداءة السمعية البصرية: في الصورة المشوشة، في الغموض، في الخطابات المكررة حتى الغثيان، والإنحاءات النفاقية، والخجل المبتور، والرقابة الذاتية والمواضيع غير المفهومة، والغلطات العملاقة. 

كل أسبوع أكرر على نفسي أن الأمور ستسير على ما يرام وأنه من غير المعقول أن نبقى هكذا مدة 15 عاماً، وفي كل أسبوع أتجرع نفس الخيبة مع ذلك أعاود الكرة الأسبوع الموالي. هذا الاسبوع إليكم ما رأيته (أو ما تحملته). مساء الأربعاء فتحت التلفزيون على نشرة العربية في الثامنة مساء -على ما أعتقد- أول شيء رأيته كان مجلس الوزراء: متحف من الشمع، لا أحد يتحرك فلو كان ما أشاهده فيلما من أفلام "الوسترون" لقلت أنه الهدوء الذي يسبق إطلاق النار بعد جولة من القمار في الحانة، إلا أن هذا ليس فيلما وإنما قصر الرئاسة، وإن كان نفس الجو تقريباً. 

حول السجاد الأخضر يتحلق الوزراء واضعين أيديهم أمامهم بوضوح على الطاولة، الكل يركز نظاراته على نقطة ما في منتصف المسافة بين إبهامه الأيمن ومرفقه الأيسر، وعلى رأس الطاولة يتجول الرئيس بنظراته بين الوزراء، بينما يرمق الوزير الأول الحضور ليتأكد أن أياً من الأيدي لن تختفي تحت الطاولة لتخرج مسدسا. الجو ثقيل والترقب شديد إلى درجة لا تطاق، من يا ترى سيطلق الرصاص هو الأول؟ بالتأكيد ليس وزير الخارجية، ولا وزير التجارة، وليس ذلك الوزير الذي يبدو يغالب النعاس، أو هذا الأخر الذي جاء قبل أن يتناول فطوره. إذاً من؟   

على كل حال لا يعول على التلفزيون أن تخبرنا، لأن كاميراتها ومعلقيها قد انسحبو باكراً، خوفا ربما من أن يتلقوا رصاصة طائشة في الوقت غير المناسب، إذاً من كسب الرهان؟ من أنقذ الفتاة كما في الأفلام؟ أين هو مفتش الشرطة؟ من أطلق النار على عازف البيانو؟ لم نجد أجوبة هذا الإسبوع، والموعد في فيلم مساء الأربعاء القادم. 

بعد مجلس الوزراء جاء تقرير عن زيارة وزير الصيد الروسي الذي استقبله نظيره الموريتاني، كان حديثهما عن السمك، أما وجبتهما  فكانت دجاجا كما يبدو على المائدة. بعد ذلك جاء تقرير عن وزير التنمية الريفية (ما كان أحوجنا إلى التنمية الصناعية والتنمية الصحية والتعليمية وكذلك تنمية العدالة، وأمور أخرى كثيرة تحتاج إلى التنمية). 

إذن، أخبرتنا التلفزة أن الوزير عائد من "اركيز" ولم تخبرنا بشيء عن مصير البحيرة التي تقول الخرائط أنها تقع في المنطقة، من شرب ماء البحيرة؟ ينبغي طرح السؤال على ولد أحمدوا فيدرالي الحزب الجمهوري ونائب المقاطعة فربما يكون قد عطش مرة وشرب البحيرة، فهؤلاء الفيدراليون المتمرسون لا شيء  يعوزهم.

وهكذا شاهدنا ثلاثة وزراء ربما يكون العشرون الباقون يغطون في نوم عميق أ أنهم مازالوا في القصر رافعين أيديهم في الهواء وأن الثلاثة قد استطاعوا الفرار والنجاة بجلودهم وهنا انتهت حلقة « الأنشطة الوزارية» وبعدها انتقلت التلفزة إلى شيء أخر. ذلك الشيء الأخر هو رحلة نظمتها جامعة انواكشوط  لتطلع طلبة السنة الرابعة على «فرص عمل» في «بلواخ» الواقعة على بعد 60 كلم من العاصمة. 

في هذا الخبر رسالة ومعنى، الرسالة عن أنه عندما لم يكن باستطاعة «بلواخ» المجيئ إلى الجامعة فمن الطبيعي أن يأتي الطلبة إلى «بلواخ»، أما المعنى: فكل ما سمعتموه كذب وزور، فلا توجد إضرابات في الجامعة ولاهم يحزنون، ولا توجد أي أسباب للإضراب، كيف وكل الحظوظ والفرصة لا تبعد سوى 60 كلم من المدينة؟

كم من الطلبة سوف يحصل على وظيفة في «بلواخ» ؟ لا أحد ففي في هذه المنطقة الضائعة بين زرقة المحيط و حمرة الرمال لا يوجد شغل ولا حياة إلا ما يكفي لثلة من الصيادين وأسرهم، وما لم يرق لي في هذا التقرير هو لطافة الطلبة وانسجامهم، فطالب مبتهج علامة على اختلال الصحة الاجتماعية، فمن فضلكم أخرجوا لنا طلبة مضربين أو متظاهرين حتى نطمئن. 
 
بعد الطلبة جاءت كرة القدم، وهي مناسبة منحت فيها جمهورية الصين هدية لفريق «المرابطون»  تتمثل في 50 كرة، لا خوف على هذه الكرات من الضياع فسوف نجدها جميعها في شابك الفريق الوطني. وهو ما يقودنا إلى التساؤل الفلسفي ما هوّ المسار المطلق لكرة تم تحييدها عن كل الثوابت وتحريرها من الضغوط الاجتماعية والرياضية وكل الحتميات والثقافات؟ لماذا يقودها هذا المسار حتمياً إلى شباك فريقنا الوطني؟

بعد الرياضة جاء دور مؤتمر في مالطا كما يقول المعلق (مالطا دولة وليست مدينة) . لا يبدو لي الموضوع واضحا، كما هو الشأن بالنسبة لمقدم النشرة. هناك صور رجال يلبسون الزي الرمادي يتحلقون حول مائدة كبيرة، أقل أهمية بالتأكيد من مجلس الوزراء، فلا ترقب ولا وجوهم، فبدل الوزراء الصامتين، هناك موظفون تعساء يغالبون النعاس وفي خاتمة النشرة ألقى السفير التونسي خطابا بمناسبة الذكرى الـ 41 لاستقلال بلاده.  

سنتحدث قليلاً هنا عن النعجة وعن النعاج. إن النعجة كائن وديع يعيش مطأطئ الرأس ومطأطئ الذيل، ينظر باستمرار إلى الأسفل، وهي -كذلك- حيوان لا يكن له الناس الكثير من الاحترام، ذلك هو شعورنا تجاهها، أما أسناننا فإن لها شعور أخر وكذلك بطوننا، لكن ماذا عن النعجة نفسها؟ ماهوّ شعورها تجاهنا؟ قد يقول البعض أنها ليست عاقلة وبالتالي ليس لها شعور تجاهنا وأن المهم ما نعتقده نحن عنها وشعورنا تجاهها.

قد أعترف أن لهذا الكلام شيء الصحة، وقد أعترف أن النعاج فعلاّ ذكية، طبعا لا نريد منها حل معادلة رياضية أو إعراب بيت من الشعر، أو حتى إرسالها للحانوت، فهي غبية جداً بدون شك، إلا أنها تعبر عن ذلك الغباء وتتمظهر به بإتقان منقطع النظير إلى درجة تدعونا إلى التريث في حكمنا عليها بالغباء. إن الذكاء الذي نحتاجه كي نظهر أذكياء ونبقى كذلك، هو ذكاء كبير بدون شك إلا أن هناك ذكاء يساويه ويوازيه ويتمثل في الغباء لدرجة ما، لأنه يلزم بالفعل الكثير من الذكاء للإتصاف والتمظهر به.

إن الإشكالية كما هي العادة ليست في هذا ولا ذاك، إنما في السؤال عن ماذا أفادنا ذكائنا، فعندما ننظر من زاوية النعاج نجد أن ذكاء الإنسان لم يستفد منه إلا في الإساءة إلى النعاج وهوّ أمر لا يبرر ضرورة للذكاء، وعليه فإنه من الأفضل -كما يرى النعاج- أن يبقى المرء غبيا، وعليه مالذي سنعتقده نحن البشر عندما نتصرف كالنعاج تجاهنا كما نفعل حيالها؟ عندما نشرع فجأة في مطاردة النساء وحلب ألبانهن وشربها، ومطاردة الرجال وذبحهم والإمساك بالأطفال الرضع وإجبارهم على الطعام وتربيتهم من ثم بيعهم عند بلوغهم المراهقة؟ عندما يحدث هذا -لا قدر الله- مالذي سوف نعتقد؟ هل سنعتبر تصرف النعاج هذا عاقلاً أم مجنونا؟ 

إن الذكاء لم يستطيع حتى الأن تنظيم العالم ولا جعله معقولاً. يقول إمام  «الظاهرانية» موريس مولوبونتي «علينا أن نجد طريقة للتعامل مع العالم، وحضوراً فيه أقدم من الذكاء». أرى من جانبي أن هذا «المولوبونتي» قال ما قاله دون قصد و عندما كان في حالة إرهاق أو يأس شديد، وبما أن أحدا لا يريد أن يكون أقدم من الذكاء، فإنه لم يجد بعد من يرد عليه، إلا أن هذا التعامل مع العالم وذلك الحضور فيه اللذين لا نهتم بهما كثيراً، هما أسلوب قد اكتشتفه النعاج ومارسته.

قد يقول البعض أن النعجة أقل شأنا وأنها مجرد حيوان من أربعة أرجل وذيل  يربطها جلد وأنها ولدت لكي تشحن بالعشرات في سيارات كي تذبح وتؤكل، لكن لا، لا أبداً فالأمر ليس كذلك، فالنعجة تنظر إليك وتراك قادما إليها، وتعرف أن الذي في يدك سكينا، وأنك سوف تذبحها وتأكلها فتقول لنفسها أنك غبي ووحشي وهي تقبل بأناة وصبر هذه الوضعية وتقول لنفسها «إن البشر إن إذا كانوا يصرون على التشبث بهذه البدائية والوحشية فذلك شأنهم وشأني أنا كذلك، المهم أن لا أكون من يضطلع بالدور السيء حتى وإن كنت أنا التي سيتم ذبحها وهو أخف الضرريتن حيث أنني لم أكن الذابح».

أًصبح للنعاج عيدهم، ففي عيد الأضحى يحتفل النعاج ومن يجيد الاستماع في أسواق الحيوانات سيرى أن الحظائر تضج بصخب غريب: خراف تدعوا إلى الثورة من حظيرة إلى أخرى مكررين «أن هذا لا يمكن أن يستمر، وأنه أن الأوان لوقف هذه المجازر وهذا القمع ضد شعبنا» وهناك كتبيات للطبخ توزع في الخفاء عن وجبات من قبيل «رأس بشري مخلل» ، «كتف صبي محمرة»،  «جبنة المرأة الضاحكة»،  «كوزو نوزو بشري» ، «حساء باللحم البشري المفروم» ففي الماضي كنا نحن البشر دائماً من يأكل الأخرين إلا أنه سو ف يأتي يوم نشعر فيه كما يقول سارتر في «الإكليل الزنجي» بدورنا بالإنبهار عندما يتم أكلنا.  

هل سنشعر بالفخر عندما نؤخذ بالمئات إلى سوق بيع البشر عراة تحت الريح والمطر، نتغذى على النفايات في ضواحي عاصمة الجمهورية «النعاجية»؟ نعاج مهمة في أثواب قشيبة مكوية سوف تأتي في سيارات باهرة لتتملس صدورنا وفقراتنا السفلية لترى هل نحن جديرون بأن نطبخ في مراجلها. خراف عصبية تفوح منها رائحة عطور نفاذة سوف تشق طريقها بين أجسادنا اللزجة لتشير بأحد أصابعها إلى أحد أطفالنا وتقول للبائع كم؟

 في القرى الداخلية ستكون للأسر النعاجية قطعان صغيرة «تمزَه» من النساء تحلب ألبانها لخروف أو جدي صغير أو لإعداد شراب لضيف قادم من بعيد، ومن حين لأخر يذبح طفل صغير ليطعم ذلك الضيف.

أريد من المواطنين أن يغيروا سلوكهم حيال النعاج قبل أن يكون نحن من يطلب من النعاج أن تغير سلوكها تجاهنا، العالم يتغير بسرعة، ونحن جزء من هذا العالم، وكذلك النعاج. 

ملاحظة:  كاتب هذه السطور يحتقر فرنسية تدعى برجيت باردو 

المصدر: القلم، موريتانيد، ت: عبد الرحمن ولد عبد الله، العدد 237 بتاريخ 07 يوليو 2003،

أحد, 12/12/2021 - 12:13