موريتانيا والسنغال: معادلة جديدة في العلاقات

تمهيد

 

" الي عظه لحنش يخلعه لحبل"

ليس من السهل أن نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في العلاقات الدولية والإقليمية المتلاطمة:
وأقل سهولة من ذلك تبين البرزخ الفاصل بين بحري المصالح حتى نضمن عدم بغي أحدهما على الآخر.
وأشد صعوبة من ذلك كله  أن نهتدي بالحدس الاستباقي إلى الحدود الفاصلة بين
نعومة العلاقات العامة  وخشونة المصالح الاستراتيجية بين الدول.
ونحن والأخت الجارة السينغال لسنا استثناء من هذه القاعدة السياسية العامة.. فالذاكرة النشطة للوقائع المسجلة بالماضي بيننا، تطل بعناد من وراء التجارب السابقة لترفع لافتة المثل الشعبي: " الي عظه لحنش يخلعه لحبل".
ونحن إذ نتمنى لأنفسنا ولجيراننا أن يكون حبل علاقاتنا الثنائية المتجدد حبلا لاحنشا، بل عروة وثقى، تنمو في ظلها العلاقات الإيجابية الحيوية، بيننا؛ فإننا نعلم  أن السياسة الواقعية تخاطبنا بلغتها الصارمة سواء تعاطينا معها أم لا.
........
هذه اللغة هي ما يجب أن نستمع إليه بكل انتباه، إن أردنا أن نتحكم في الواقع لا أن يتحكم فينا،،.
والسياسي الماهر هو الذي يملك أذنين واعيتين مثل متذوق الموسيقى السينفونية، ينتبه  لنغمات القرار والجواب، معا،  ويميز النغمات المتنامية عن تلك المتتاقصة، بعد أن كانت سائدة. ثم يدرك التناغم بين الألحان والإيقاعات المنوعة.
فالسياسي الحقيقي إذن، هو الذي يملك أذنين تسمع كل واحدة منهما مالا تسمعه الأخرى.
وهذا هو حالنا الذي يجب أن نتعاطى به مع مستجدات الواقع الذي طرأ على معزوفة جارنا بعد تأليفه بعض النغمات والإيقاعات التي تتطلب الترشيد والضبط، أو الفهم والتكيف، على الأقل.
فما الموقف المطلوب من الجمهورية الإسلامية الموريتانية، ونخبتها القيادية، في الأغلبية والمعارضة، وفي الخبرة والوعي لدى الرأي العام؟
ذلك هو السؤال الذي سنتصدى الآن للإجابة عليه، بعد محاولة الإجابة على سابقيه في المقالين المنشورين ضمن هذه السلسلة.

 

أولا: ماهو منظورنا للإجابة؟

 

المبدأ الأول:

نعالج هذا الموضوع من منطلق وطني عام، يحاول تجاوز الاعتبارات الجزئية ويتشوف للتعبير عن المصلحة الموريتانية العليا، كما نفهمها،

المبدأ الثاني:

محاولة البناء على الواقع والاستئناس بالمعطيات، كما هي، لاكما نريدها أن تكون.، فالواقع يختلف عن المأمول.. وإن كان العمل على المأمول مطلوبا في عنوان آخر.

 

المبدأ الثالث:
محاولة تحفيز المبادرة الوطنية الإيجابية، ليس على مستوى العلاقات الثنائية فحسب، وإنما أيضا على مستوى المنافسة النزيهة لتحقيق التكافؤ اامعنوي والتنظيمي الداخلي والخارجي ولم لا، التفوق؟، فتجربة الجيران إن كانت خلاقة قد تصبح حافزا مشروعا لتطوير التجارب الوطنية.

 

المبدأ الرابع 
عدم ادعاء الحاكمية والصواب في الرأي،، وإنما الوعي بأننا يجب أن نبدي بشكل بناء آراءنا النخبوية المتوازية أو المتحاورة، فتعايش الأفكار وتفاعلها مصدر من مصادر إبداع الحلول.
وبما أن وضع بلداننا وضع غير عادي فإن المسؤولية تستدعي منا أن نفكر تفكيرا غير عادي، حتى نبتكر حلولا خارقة، لأن الظروف غير العادية لاتتجاوز بالتفكير العادي المجتر.

 

المبدأ الخامس:

اعتماد الأخذ والعطاء، أو العطاء والأخذ من باب حسن النية والتجربة. فموريتانيا سيدة على نفسها، وليست في واقع نقص تجاه أي دولة جارة أو غيرها، فلديها تجربة محترمة في الدفاع عن نفسها، بجيش مهني بالفعل، وجهاز أمني محكم، بدلائل الأثر والنتائج المعاينة، كما أنها تملك ماتعطيه إن شاءت، دبلماسيا (رئيسة أفريقيا،ودولة استقرا، في محيط مضطرب أو قلق) واقتصاديا، (مقبلة على وفرة حقيقية)، واستراتيجيا (دولةة فعالة ومؤثرة في العلاقات البينية تاريخيا وحاضرا).
كما تملك معينا من الاعتزاز الأصيل بالنفس، خاصة عند محاولة المس بسيادتها أو بمصالحها العليا، أو مواجهتها بعدم الاعتراف.  فموريتانيا بكل الاعتبارات " ليست خرزة في برزة" كما تقول الأحجية الشعبية.
بالتالي فهي أهل للمعاملة بالمثل، والأجدر بالاحترام، تاريخا وحاضرا. وهي مؤهلة لمبدأ الأخذ والعطاء.. بتكافؤ كامل مع أي طرف آخر. كما هي ند معتبر يحمي الذمار أمام من لايراها كذلك بادي الرأي.

 

 

المبدأ السادس:

مبدأ التسامح الرشيد:
تراعي رؤيتي للحلول في هذا المقال -الذي أرجو أن يقرأه الجميع بإخلاص- مبدأ التسامح الرشيد، وخلاصته أن أطرح مبدأ التسامح خيارا أول، وتكييفه مع المستجدات عند الضرورة.
 ويتألف تطبيق هذا المبدأ من التغاضي الحازم عن الهفوات والأخطاء غير الشنيعة،  والوقوف بنعومة صارمة في وجه المس بالمصالح الحيوية، بصبر محسوب. وتنبيه مثابر للطرف المعني عبر رسائل تحذيرية واضحة أو مشفرة.. حسب المقام.

 

المبدأ السابع:

أنطلق من قناعة استنتاجية حسب تصنيف حصل في ذهني سابقا لتطبيقات السياسة، ومفادها أن ثمة:
- سياسة تقال ولا تطبق، وهي مجال العلاقات العامة.
- سياسة تطبق ولا تقال، وهي مجال المحافظة على المصالح العليا، وما يقاس عليها من تطبيقات صحيحة .
- سياسة تقال وتطبق، وهي سياسة تطبيق البرامج والخطط، والسياسات العامة المعلنة، وطنيا ودوليا.
- و سياسة لاتقال ولا تطبق، وهي محرمات ومحظورات، لكن البعض يجترحها، مثل خيانة الأمانة والوطن، ومشتقاتهما.

مع العلم أنه قد تحدث تداخلات في هذه التطبيقات حسب وضوح الرؤية أو غموضها. من لدن القيادات السياسية.
ثمة مبادئ أخرى متضمنة ستلمسون أثرها في العنوان اللاحق دون ذكر لها سعيا للاختصار ما أمكن.

 

 

ثانيا: تنزيلات تطبيقية

 

التنزيل الأول:

لقد كان توقعنا أن السيد عثمان سونكو سيتبوأ مكانة محورية في الحكومة السينغالية الجديد في محله، وأنه بذلك سيكون الحاكم الفعلي لدولته (وزير أول بصلاحيات  رئيس  وزراء)، وهو مصداق لما قلناه من أن بصيرو فاي هو الخيار الثاني للحزب الحاكم..
وقد تم تعيين سونكو رئيس وزراء فعلي.، وعليه فإن الأمر يتطلب منا الأخذ بمبدأ التسامح الرشيد، خاصة ومثلا في مسألة "توسيع المصائد السينغالية مسافة 14 ميلا بحريا، كما وعد بذلك في برنامجه الانتخابي المحين.
ولكي نفهم الحكاية من أصلها تمثيلا و تدقيقا، وموضوعية دون تحامل، فإن مصير هذا الوعد يجب أن يكون محل تساؤل كبير لدى الحكومة الموريتانية.  ومجال توضيح من الجيران:
ثمة واقع عجيب يدل على أن الله حبى موريتانيا بخيرات كثيرة، وهو أن المصائد الثرية بالسمك توجد شمال مصب نهر السينغال لاعتدال المنطقة، ولهذا توفر المصائد الموريتانية للجارة السينغال ثمانين بالمائة من حاجتها للحوم الأسماك (600 ألف كن علنية)، وتلك تمثل ما بين 40 إلى 50% من حاجة المواطن السينغالي عموما إلى البروتينات، تقريبا.
 وثمة مصدر مكمل من لحوم الحيوانات الموريتانية العابرة.
في وجه هذا القدر العجيب  ابتدعت الحكومات السينغالية السابقة طريقة لنيل موارد طوعية لهذا المصدر الغذائي الاستراتيجي عبر زيادات رخص الصيد لدى موريتانيا لصالح السينغاليين.
وأخذا بهذه الحقيقة فلا معنى لأية توسعة للمصائد السينغالية إلا إذا كانت على حساب موريتانيا. خاصة بالنسبة للصيد السطحي و قس على هذا تقاسم الغاز وأحواض كايور الناضبة..
هذا الواقع القائم والتعهد المعلق، المحتمل، يجب أن يكون محل عناية من حكومتنا، لكنه قد يكون من جنس ما يطبق ولا يقال علاتية من السياسة. أما توضيح الموقف لموريتانيا من قبل السيد سونكو فقد يأتي صراحة للطمأنة، إن أتى..
وقد يطلب زيادة رخص الصيد لا توسيع المصائد، فتلك "دعوة جاهلية" كما يقال لأنها تمس السيادة الموريتانية على أرضها وبحرها.. وذاك من المحرمات.

 

التنزيل الثاني:

مثال آخر: يعيش في موريتانيا حاليا من الشعب السينغالي حوالي 1،5 ملون مواطن، وهو ما يمثل 1 إلى 3 تقريبا من الكتلة السكانية الكلية لموريتانيا.. إلى درجة أصبحت معها بعض أحياء نواكشوط سينغالية السكان.. وهذه المجموعة السكانية من إخوتنا تعيش بكرامة واكتفاء، وتمثل جزءا معتبرا من اليد العاملة هنا وهناك.
هذا مقابل حوالي 30 ألف ساكن دائم أو متردد على السينغال من الموريتانيين.
يعنير هذا الحال بلغة المصالح الصلبة أن مويتانيا جزء مهم من مصادر الدخل للأسر السينغالية والشعب السينغالي. هنا أو في السينغال.. وهذا مما يجب أن يعيه إخوتنا من الحكام الشباب الجدد على عادات الحكم وثقافته، وهم الذين سيطلعون حتما على هذه الملفات الحساسة وغيرها عندما يفتشون أرشيف القصر الرئاسي السينغالي بعناية.
فالمعادلة السكانية بمعيار الإنصاف ليست مختلة كما يرى السيد سونك،  إلا في العدد السكاني، وهو ليس ميزة للخصم من كسب خيرات موريتانيا بقدرما هو عبء ناجم عن واقع الانفجار الديموغرافي هناك، ولا مسؤولية لموريتانيا فيه حتى يحسب عليها أو تدفع ثمنه.. ونحن مع ذلك نقوم بالواجب وأكثر حسب الإمكان.
هذه النقطة بالسبة لنا من جنس السياسة التي تقال وتطبق، ل (يحيا من حيي عن بينة).

 

التنزيل الثالث:
لقد قامت موريتانيا بواجب "التعازريت" الدبلماسية والمعنوية للحكومة الجديدة في السينغال،، فكانت  أول من هنأ، وعزز. وحضر رئيس البلاد بأريحية حفل التنصيب. ولحضور ه معنى مزدوج، هو التزكية الوطنية والتزكية الأفريقية، سواء من باب حسن النية أو الدفع بالتي هي أحسن. وهذا من جنس ما يقال ويطبق في السياسة.

 

التنزيل الرابع:
وهذا، حزما، من جنس ما يطبق ولا يقال من السياسة،: وهو  إعطاء فترة تربص غير معلنة للحكومة الجديدة، لمعرفة وجهتها حسب مؤشرات الواقع وقرينة التصرف كما هو، محاولين جهدنا،  عدم ترك فراغات لسوء فهم الجيران في أي اتجاه.

 

التنزيل الأخير

:العمل على تأسيس الجمهورية الثانية في موريتانيا. وتأسيس جمهورية يعني تحويل الإنسان من كائن متردد مرتبك إلى إنسان بناء و اثق من نفسه، وتأسيس إدارة مستقبلية النظرة، وتأسيس عقلية انتماء صادق للوطن.
مع إبداع واتساع في المدارك، وحماية البلد بكل المعاني، قياسا على بعض الأمم التي رأيناها تنهض من الرماد. بإنسان بناء
لقد تأسست الجمهورية الأولى مع أبي الأمة المختار ولد داداه إلا أن مراجعته للاتفاقيات مع فرنسا جعلتها تلتف عليه من خلال حرب الصحراء التي حاقت بهذه الجمهورية، وقد تحكمت نتائج هذه الحرب في إكراهات تاريخية وأحكام متتالية لها مالها وعليها ما عليها. والآن أرى أن تأسيس جمهورية ثانية ملائم لاعتبارات كثيرة سنعود إليها، من بينها المناخ السيياسي التشاركي الحالي  والاستقرار الأمني  وتوقعات الوفرة الاقتصادية (ولي عودة إلىلموضوع بتوسع في منعالجة قادمة).

 

ثالثا: نهاية المطاف

ثمة روافد كثيرة ومؤشرات متنوعة تدفعنا إلى توقع الأحسن لنا ولجيراننا، الذين نتعامل معهم منذ بعض الوقت..
ومما يجب أن يبقى واضحا في كل الأحوال  لدى نخبتنا: ثورية تناصب الاستعمار، وإسلامية صحوية تستبشر، أو محافظة تقليدية تنتظر، أو قومية عروبية وآفريقانية تتوجس، أن التعاطف مع المبادئ مشروع، لكن ما يعني موريتانيا، أولا  وقبل كل شيء هو مصلحة موريتانيا التي لا أرى أنها تتناقض أبدا مع مصالح الجيران، ومصالحهم المشروعة، وطموحهم الإيجابية، ما قبلوا ذلك.. 
 أعتقد من باب الواقعية السياسية أن ذلك هو أقصر السبل للوصول الآمن  إلى نتائج موجبة للجميع.

في النهاية، و كما قلت سابقا يجب أن تنصت قيادتنا ونخبنا بذوق موسيقي للمعزوفة الموسيقية الجديدة. (ترنعا)،  بكل نغماتها  و إيقاعاتها التي تتشكل على ضفافنا الجنوبية، والتعاطي مع أدائها وإيقاعها المتسارع: بحكمة من طرف الجميع في بلادنا، وذلك من مبدأ "مصلحة موريتانيا فوق كل اعتبار، لكنها لا تحول دون تحقيق مصالح الآخرين بالضرورة.".

 

الدكتور محمد ولد أحظانا 
كاتب موريتاني

جمعة, 05/04/2024 - 10:53