القضية الفلسطينية والقضية الصحراوية: التعتيم والتنوير لخدمة الغرض ذاته

بين القضية الفلسطينية باعتبارها قضية الأمة الأولى و القضية الصحراوية التي حوصرت في حيز محلي عنوة و غُيِّبت  إعلاميا، تمايز ظاهر و تقاطعات جوهرية غريبة.
 خاصة في كيفية تعاطي الحكومات و الشعوب العربية مع كل منهما، تمايز ليس بحاجة لتأويل إذ أقرّته هذه الحكومات و الشعوب نفسها عن وعي أحيانا و عن تبعية في أحيانٍ أخرى.

فرغم اعتناق هذه الشعوب للقضية الفلسطينية بدعم و تعاطف بلغ أشكالا متقدمة من الإبداع الاحتجاجي، أثمر تيارات فكرية و أدبية و فنية و سياسية و حتى دينية، تجاوزت المألوف في التعبير عن التمسك اللامشروط بها، لتتحول القضية إلى أيقونة ثقافية و علامة نضالية مسجلة.
بل و باتت تمثل خطا فاصلا بين الإيمان و الكفر بقيم العدل و الحق و الحرية.
يقابله تجاهل تام للقضية الصحراوية تقف وراءه المصالح الجيوسياسية و الولاءات، و تفرضه لوبيات شراء الذمم.
 و تعتيم إعلامي ممنهج  أريد به إسقاطها من الذاكرة الجماعية العربية، بل و تزوير تاريخها و وسم شعبها بمصطلحات ك"الخوارج" و "الانفصاليون" و "المغرر بهم"  تتلقفها الذائقة العربية المعطوبة اليوم  بشيء من القناعة التي لم تُخضع للمساءلة و لا وزنت بميزان اليقين.

مصطلحات يودعها الجمهور العربي  المحدود  بطريقة لا واعية، حمم قهره الداخلي من واقعه الذي لا يجد عنه متنفسا عدا إلقاء اللوم على الضحية كوسيلة لتحقيق شعور زائف بالرضا و محاولة لتخدير الضمير أو التعايش القسري مع واقع مضطرب.

أما شعوب المنطقة العربية البعيدة ففي عزلة تامة يفرضها واقع أنها ليست على مقربة جغرافية -أقله- من هذه القضية، كما أن لحكوماتها مصالح لا تضحي بها في سبيل وعي الشعوب الذي لا تريده أساسا.
و ظل الدعم لفلسطين مجرد شعارات تحقق سلاما داخليا مخدرا للشعوب و تهدئ من حرقتها على الأهل في فلسطين الحبيبة، دون ان يكون له أثر .
يقابله صمت مطبق أضاف لمأساة الصحراويين ثقلا معنويا أكبر،
و عمّق الشعور باليُتم الذي تعيشه قضيتهم في محيطها العربي.

أُريدَ لهذه الشعوب أن تقع في فخ مزايدات فجة خارجة على المنطق خروجا صارخا..
أن تؤمن بأن التماهي مع القضية الفلسطينية يُغني عن الإنصاف لغيرها مع أن لا تعارض !
و أن الإيمان بها  كافٍ لإثبات الهوية و الانتماء فلا حاجة إذن لتبني قضايا "هامشية" "فمركزيتها" مُلغية لما سواها!!
و قد يكون ذلك صحيحا نوعا ما..لكنه لا يخلو من مغالطة منطقية.

فمن قال أن مركزية القضية الفلسطينية لاغية لغيرها؟

و هل أغنت عن الشعب الفلسطيني هذه العواطف الجياشة و الحنجوريات شيئا ؟
من بالله قال أن كل قضية عادلة تستوجب نصرتها أن تعود على المتعاطف بشعور الانتماء لها كمُكافئة؟
ألا يشير هذا الى ضيق في الرؤى و تجزيئ للمبادئ؟
ليس مجرد الشعور بالانتماء هدف يُقَرر من خلاله خيار النصرة من عدمها
 ألا يكفي الانتماء للإنسانية مادامت بقية الانتماءات متجاهلة عمدا في حالة القضية الصحراوية رغم وجودها؟ و رغم أنها ذاتها  هي الدافع لنصرة فلسطين ؟
ما هذا التناقض؟
 أليس الشعب الصحراوي مسلما؟
أليس عربيا؟
أليس مغاربيا؟
 أليس أفريقيا؟
أليس له امتداد عميييق في تاريخ و جغرافيا الجزيرة العربية؟
أين الخلل إذن؟

القضيتان توأمان في مأساتهما رغم الشعور المتجذر بالدونية و الصغار أمام مأساة الأهل في فلسطين، لكن ليس في الظلم -كيف ما كان دين الظالم- اختلاف أو هذا ما يفترض أن يكون من جهة تعاطي الشعوب بصرف النظر عن الناحية العقدية، فالجذر الاستعماري هو نفسه و المظلمة واحدة و التواطؤ الإقليمي و الدولي واحد و كذا الخذلان.
 مع فارق بسيط و هو أن إحداهما متفق على نصرتها و لم تجنِ  رغم ذلك شيئا من هذا الاتفاق، و الثانية متفق على وأدها و لم تخسر  أكثر مما خسرت بسبب الإستعمار.
ببساطة لأن الأمة تفتقر الى ثورة مفاهيمية و وعي يعيد تعريف الأشياء و يحرر العقل العربي من معضلة الاستعاضة عن الفعل بالقول و التخلص من الرغبة في إسكات الضمير كغاية في حد ذاتها رغم أنه المؤشر الوحيد على الحياة!
 فالنصرة و الخذلان إذن-و الحال هاته- لا يختلفان كثيرا.

 لئِن رعت الحكومات العربية بمختلف أدواتها السياسية ذلك الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية المقدسة و لقّنته شعوبها عبر جميع منافذ التلقين، بدءا بالتعليم و مرورا بالإعلام ثم غذّته انتهاءً بخطاب ديني خاص.
 فقد بقي للأسف مجرد عبء يُحسب عليها و مِنَّةٍ توخز بها، لصناعة أبطال من الوهم في كل تصريح أو خرجة إعلامية، كما استُثمر لإضفاء شرعية دائمة لأنظمة فاقدة لها، و تجميل قمعها و تكريس بقاءها الأبدي تحت شعارات العروبة و المقاومة و لم تُعنى به النصرة على حقيقتها المثمرة. 
تماما كما استثمر التعتيم على القضية الصحراوية لمنح نظام استبدادي شرعية لا يملكها على أرض و شعب لا تربطه به رابطة، عبر مصادرة حقه في تقرير المصير و تشويه نضاله.

هل من مفارقة أدهى من أن يستخدم التنوير و التعتيم رغم تناقضهما للغاية ذاتها؟

 هنا تحديدا تتقاطع القضيتان في عمق المأساة.

لكن الشعوب ليست على درجة من الوعي تمكنها من التمييز لاسيما في ظل اتساع مساحات التوجيه و الضغط و تقليص فضاءات التعبير و المعرفة الحقيقية.

 أما العزاء المخجل: فهو أن الوعي العربي بقضية فلسطين الحبيبة الذي يقابله وأدا مقصودا للقضية الصحراوية، لم يتجاوز عمليا كونه مجرد طقس جامد في الديكور السياسي و الديني، و زوبعة انفعالية تنتهي بانتهاء لحظتها و لا تتعدى في أفضل حالاتها حدود التظاهر و التنديد و الدعاء و الفضفضة الحميمية و عقد القمم العبثية، في مشهدٍ يختصر هشاشة الواقع العربي و هيام عنصره المزمن بالشعارات و انغماسه في مزايدات لا تكلف موقفا حقيقيا أو تحرّكا واقعيا..  

لهبيلة اسودح

كاتبة صحراوية 

أحد, 18/05/2025 - 11:06