هشام جعيط.. ابن خلدون الحائر

عندما فتحت كتاب هشام جعيط "السيرة النبوية" قبل بضعة عشر عاما، وجدت نفسي أمام ذلك الصنف من الكتب الذي لا يمكن أن تفارقه قبل أن تكمل قراءته وأنت تلهث خلف سطوره، فطريقة هشام جعيط في كتابة تاريخنا الإسلامي طريقة التفكير بصوت عال، ورغم أننا لا بد أن نختلف معه بسرعة لأنه يمتلك جرأة عالية في الاصطدام مع الثوابت والقناعات الراسخة، لكننا لا نملك إلا أن نحترمه، فالرجل يكتب بموسوعية من يمتلك ناصية العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، ويقف في ملتقى طرق الفكر البشري المعاصر..
لقد عدت مرات عديدة لقراءة هذا الكتاب لأنه تحداني، وأثار أسئلة فتحت شهيتي لقراءة كتب أخرى في مجالات متنوعة، رغم أنني كنت وسأظل مختلفا معه في مصادرات كثيرة..
في الجزء الأول من ثلاثية السيرة، نعثر على نص فريد يسير بين التاريخ والفلسفة وعلم الأديان، في دراسة مقارنة لظاهرة الوحي، لقد عدنا إلى "جليل الكلام" بلغة السلف، وفي الجزء الثاني "محمد في مكة" نطالع نصا في الانتربولوجيا التاريخية، ونندهش أمام نقد عاصف للمصادر والروايات الأصلية، ونخرج بصدمة كبرى أمام اللغة العلمانية الباردة التي يخاطب بها جعيط قطعياتنا الإيمانية، وفي الجزء الثالث "محمد في المدينة" نتعرف على موجز فريد حول الغزوات وانتصار الإسلام..
تتمثل المساهمة الكبرى لهشام جعيط في وقوفه بصلابة أمام موجات الاستشراق العدمية الجديدة والتي قادتها "باتريس كرونه" ورفاقها في كتاب" الهاجريون"، لقد أكد بلغة علمية قوية وبناء على شروط القوم أن القرآن الكريم هو النص الأقوى حجية في تاريخ الإسلام، وأنه نص أصيل ومعاصر للنبي صلى الله عليه وسلم  وصحابته، على عكس موجات التشكيك والتلاعب الحمقاء التي قادها جيل من يسميهم جعيط صغار المستشرقين، والذين ما كان لهم أن يجهروا بهذا الكلام لو كانوا يعلمون أن جيلا أكاديميا لهم بالمرصاد. 
ودافع هشام جعيط بشراسة عن ظاهرة الوحي، حتى لو دفعه ذلك إلى خطيئة المساواة بين القرآن الكريم، وأنشودة السعيد الهندية، وموعظة الجبل التي روتها الأناجيل، وإذا كان لنا أن نلتمس للراحل عذرا رغم اختلافنا معه، فإن طبيعة من يخاطبهم من المستشرقين ودراسي الإسلاميات بالمناهج العصرية تغفر له الكثير من الزلات، اللهم إلا ما خالف فيه قطعياتنا العقدية التي لا تقبل الجدال.
لقد كان هشام جعيط مؤرخا كبيرا ووريثا شرعيا لابن خلدون، وقدم عملا موسوعيا لنقد الرواية التاريخية الإسلامية بناء على "طبائع العمران"، هذه المرة بلغة العصر وعلومه ومصطلحاته. 
 اليوم وبعد عمر حافل بالعطاء العلمي يغادر عالمنا هذا الجهبذ الكبير، والذي أكد أن تونس أو إفريقية كما سماها الرومان والعرب، تونس الخضراء ما زالت تنجب العباقرة، وأن ابن خلدون آخر ولد هنا وترك بصمة لا تنسى في علم التاريخ.. 
 

جمعة, 04/06/2021 - 10:41